تمرّ الأيام وتتغير المواقف فى مصر تغيرات تثير ليس فقط الدهشة بل وأحياناً الغثيان. فها هو المهندس عاصم عبدالماجد، عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية، وبعض من إخوته وأعضاء جماعته يهددون معارضى الرئيس مرسى وحكم الإخوان بالقتال والقتل، ومقولات للحجاج الثقفى قاتل بعض من الصحابة وآل بيت الرسول، صلى الله عليه وسلم، لمجرد مطالبتهم بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة كما حدث فى عشرات من دول العالم الديمقراطية. المهندس عاصم وبعض من قيادات وأعضاء جماعته نسوا وأسقطوا من ذاكرتهم مواقف غالبية هؤلاء المعارضين المهددين بالقتل منهم عندما كان النظام السابق يزجّ بهم فى سجونه، وكيف «قاتل» الكثيرون منهم من أجل حريتهم وحقوقهم الضائعة حينذاك. لن نطيل كثيراً، السطور التالية جزء من مقال نُشر للكاتب فى هذه الجريدة بتاريخ 20 أغسطس 2007 بعنوان «هل يكون السجن أكثر رحمة ورحابة من الوطن؟».
سبق أن تناول الكاتب فى تلك المساحة على مدار العامين السابقين، أكثر من مرة، قضية أحوال المفرج عنهم من المعتقلين السابقين من أبناء الجماعة الإسلامية وغيرها من جماعات العنف الإسلامى السابقة التى تحولت تماماً ونهائياً عن هذا الطريق فكرياً وعملياً. وخلال هذين العامين وقبلهما بكثير، ومنذ أن بدأ الإفراج عن هؤلاء المعتقلين فى عام ١٩٩٨، ويعنى هذا من وجهة النظر القانونية والعملية والإنسانية، أن كل هؤلاء المعتقلين السابقين أبرياء لم يرتكبوا جرماً مادياً سوى الانتماء للأفكار المتطرفة والجماعات التى كانت تعتنقها، وهو ما لم تجد فيه سلطات الأمن ما يمكن أن تحيلهم بسببه لأى نوع من المحاكمة. وقد دفع هؤلاء المعتقلون السابقون أغلى سنوات عمرهم فى أوضاع تفوق قسوتها أى خيال بالمعتقلات والسجون، مقابل هذا الانتماء لتلك الأفكار وهذه الجماعات. بعد كل تلك السنوات الطويلة الثقيلة، خرجوا بعد أن استردوا وعيهم ونبذوا دون رجعة كل أفكار العنف والغلو ليجدوا أنفسهم فى أوضاع شخصية وعائلية واجتماعية غاية فى البؤس والتردى.
أصبح هناك عشرات الآلاف.. نعم عشرات الآلاف، فأقل تقدير لعدد هؤلاء هو أربعة عشر ألفاً من أبناء هذا البلد، وغالبيتهم من محافظات جنوبه الغارق أصلاً فى البؤس والفقر والبطالة، هائمون على وجوههم يبحثون عن مورد رزق «حلال» يتعيشون منه وأسرهم، ولأن البطالة فى مصر صارت قدراً لغالبية شبابها، فقد أضحت لهؤلاء المعتقلين السابقين قدراً مضاعفاً، فمن ذا الذى يعطى وظيفة لمعتقل سابق، حتى الباب الضيق الذى أمّل بعض من هؤلاء فى أن يعودوا من خلاله إلى الدنيا كمواطنين يكدحون من أجل كسب رزقهم سرعان ما أُغلق، والمقصود به أحكام التعويض النهائية عن الاعتقال التى كسبوها فى المحاكم ويزيد عددها على عشرة آلاف حكم بمبالغ هزيلة تتراوح بين ثمانية آلاف واثنين وعشرين ألف جنيه مصرى، فلم تستطع وزارة الداخلية أن تنفذ سوى عدد ضئيل للغاية منها.
والسؤال الرئيسى الذى نطرحه هنا ونسعى للبحث عن إجابته هل يمكن وفقاً لأى اعتبارات إنسانية أو دستورية أو متعلقة بأمن بلدنا ومجتمعنا أن نظل متجاهلين تلك القضية الخطيرة دون أى محاولات جادة لحلها؟ والإجابة عند الكاتب واضحة لا تحتمل التردد أو التفكير: لا يمكن لكل هذه الاعتبارات ترك تلك الأزمة لكى تستفحل وتسحق فى تصاعدها هذه الأرواح الشابة من أبناء مصر أولاً، ثم تطيح ثانياً باستقرار وأمن هذا البلد أو ما تبقى منه.
وحتى نتبين طبيعة هذه الظروف وما يمكن أن تدفع إليه، يكفى أن نعرف أن بضع مئات من هؤلاء المعتقلين السابقين قد طلبوا من أجهزة الأمن إعادة اعتقالهم حتى يتمتعوا على الأقل بمأوى وثلاث وجبات مجانية فى سجون كانت فى سنواتهم الأخيرة بها بعد تغير المعاملة الأمنية أفضل بكثير من الأوضاع التى يعيشونها اليوم خارجها. انتهت السطور القديمة، وتظل المواقف الجديدة شاهدة على أصحابها.