سألوا المخرج ألفريد هيتشكوك عن الفارق بين الحياة والسينما أجابهم الحياة رغيف خبز بينما الفيلم قطعة "جاتوه".
بكلمات بسيطة بقدر ما هى عميقة أمسك هيتشكوك بالاطار الخارجي للفن وهو أن المذاق ينبغي أن يصبح شهياً. للفن قواعد وكادر وزاوية رؤية، لا أتحدث عن الفيلم السينمائي فقط ولكن اللوحة والشعر والموسيقي تظل في النهاية خاضعة لكل ذلك ، الحياة مادة خام والمبدع يستخرج منها ما يتوافق مع إيقاعه ونبضه.
يبدو تعبير مثل التلقائية والعفوية في علاقته بالفن يحتاج إلى شيء من التدقيق ، احتفاظك بعفويتك لا يعني أنك لا تدرك أن هناك قواعد تحكمك ،مثل الممثل عندما يندمج في الدور فهو يعلم بالضرورة حجم اللقطة وزاوية الرؤية ومصدر الاضاءة وحركة الكاميرا وإلا وجدناه عندما يؤدى دور سفاح وهو يقتل بالفعل ضابط الشرطة الذي يطارده لأنه مندمج.
في السنوات الأخيرة بدأنا نشاهد سينما مختلفة في الكثير من ملامحها و يشكل الحوار أحد تلك المحددات ، حيث يعتمد وبنسبة كبيرة على استيعابهم للشخصيات التي يؤدونها وبالتالى ينحتون وسيلة التعبير سواء في الكلمة أو طبيعة الأداء .
"عشم" هو أخر تلك الافلام ، الكلمة مصرية صميمة. العشم في معناه الإيجابي طاقة أمل وأمنية تبدو بعيدة المنال لكنها ممكنة التحقق، وقد يصبح العشم الوجه الأخر لإحساس ممزوج بالمرارة للتعبير عن خيبة الأمل.
الفيلم يقدم حياة ستة أزواج - بعضهم في طريقهم للزواج - و ينتقل من حكاية إلى أخرى وننتقل أيضاً معه من حالة إلى أخرى. في اللقطات الأولى لا تستطيع أن تدرك قانون الفيلم فلا توجد خطوط تواصل بين الأبطال مثل فيلم "سهر الليالي" لهاني خليفة الذي كان يجمع أبطاله بخيط واحد وهو الصداقة ، هذه المرة نحن أمام تنويعات وحالات مختلفة تكشف طبيعة المجتمع، وفي رؤية بانورامية تُطل على مصر بالعديد من طوائفها لا عمق فيها ، فهى أقرب للوحة جدارية.
محمد خان في اللقطة الأولى يؤدي دور رجل يحب الورود والسفر وتأتي وصيته لجارته أن تهتم في غيابه بحياة الزهور أما عشقه للسفر فهو وسيلته "للتهتهه" طالما لا يعرف اللغة ،إنها الأمنية المستحيلة التي من الممكن أن يعيشها رجل أكمل العقد السابع من عمره ويجدد تعاقده مع الحياة بالعودة للطفولة و يبدأ بالتهتهة. اللقطة الأخيرة صوت نجيب الريحاني وليلى مراد في الدويتو الشهير "عيني بترف" وهو يردد "حاسس بمصيبة جيالي يا لطيف يا لطيف" وبالطبع التحذير في الأغنية لا يعني الخوف من القادم ولكنه الحب الذي كان يخشاه وفي نفس الوقت يتمناه.
تتعدد الأنماط التي يقدمها السيناريو من يريد أن يهاجر إلى أمريكا ومن يرى أن ماليزيا هي الهدف ،هؤلاء هم المهزومون لأنهم ابتعدوا عن الوطن ولكن الآخرين الذين قاوموا هم من يتبقى في الذاكرة.
أتوقف أمام شخصيتين الممرضة منى الشيمي تحب من طرف واحد الطبيب في المستشفى وأيضاً الفتاة نجلاء يونس التي تأتي من القرية لتعمل في دورة المياة في مول ضخم وتصطدم للوهلة الأولى مع العاملة الأقدم التي تؤدي دورها سهام عبد السلام وتطلب منها وهي تخاطبها أن تطلق عليها "الريسة".
وتأتي النهاية بهذه اللمحة السريعة التي تجمع بين عشم والممرضة ويسألها عن اسمها فترسم "بسمة "على شفايفها وتخبره أن اسمها ابتسام.
الفيلم قائم على تلقائية الحوار وهو ما تجده مثلاً في أفلام المخرج إبراهيم بطوط ولكن ستلاحظ نسبة ما من الانضباط في فيلم ماجي مورجان، الأمر هنا ليس رهناً فقط بالديمقراطية التي تمنحها المخرجة لأبطال الفيلم ولكن ينبغي أن يلتزم الممثلون بقواعد الدراما حتى وهم يتمردون عليها. هناك فارق بين التلقائية والعشوائية نحن نتابع شريط سينمائي تلقائي يرفض تماماً منهج العشوائية.
و يبقى في هذه التجربة التى نراها بين أفلام أخرى بدأت تطرق في السنوات الأخيرة باب السينما المصرية لتؤكد أن هناك خط مواز بات يطل علينا بين الحين والآخر بأفلام دأبنا على أن نصفها بالمستقلة حتى أشعارا أخر و توصيفاً آخر. التجربة في مجملها لم تكتمل ولكنها تفتح الباب بالتأكيد أمام وجه مغاير للسينما ،إنها نافذة لأفلام تحاول أن تجعل من رغيف العيش قطعة من "الجاتوه"!!