الجنة النعيم المقيم، الكامل الأوصاف. والنار هى العذاب المقيم، البشع، المفرط فى بشاعته. تخيل بشر هذه وتلك من ملاحظتهم للسعادة والشقاء من حولهم فى العصر الذى عاشوا فيه. السعادة لحظات ينعم فيها بشر بطقس رائع، وطعام وفير، وأمان، وخمر، وحلويات، وثمار فاكهة، وجنس غير مشروط. والشقاء نار تحرق الجسد، وتنزل عليه ألما لا ينتهى إلا مع طلوع «الروح»، لكن «الروح» لا تخرج، بل تتبدل الأجساد ويعاد تعذيبها، بحيث يكون القتل -أبشع فعل إنسانى على وجه الأرض- رحمة بالنسبة لها. لكن هل هذا موجود فى هذا العالم؟ هل أى من الصورتين موجود فى حياتنا هذه؟ أبدا. لقد استدعيناها من التطرف فى تخيل السعادة أو تخيل الشقاء. هل يمكن أن توجد يوما ما فى هذا العالم؟ من الناحية النظرية الرياضية يمكن أن يحدث هذا لو استمر التدهور فى الشقاء إلى ما لا نهاية، أو لو استمر التقدم فى السعادة إلى ما لا نهاية. نظريا. بنظرة موضوعية إلى هذا العالم، أين يمكن أن تتحقق هذه الجنة النظرية؟ لو افترضنا الإمكانية -أشدد على هذا- فالنظرة الموضوعية تقول إن أمريكا والدول الغربية أو إسكندنافيا أقرب إلى تحقيق هذه الجنة. وأن منطقتنا الشقية المتدهورة من سيئ إلى أسوأ أقرب إلى تحقيق النار على الأرض. لسبب بسيط جدا. أن جنتهم قريبة من نارهم. لديهم جنة الأغلبية الضئيلة، ونار الأقلية الضئيلة، والعكس. حين يحدث خلاف فى المجتمعات الغربية حول موضوع سياسى أو اجتماعى، فإن جو الحرية يسمح للطرفين بعرض آرائهما، ويسمح للمتأرجحين بالاستماع إليهما ثم اختيار واحد منهما. وغالبا غالبا ما تكون نسبة المنحازين إلى هذه الحجة قريبة من نسبة المنحازين إلى تلك. وهذا شىء عظيم، لأنه يترك لدى المنتصرين إحساسا بعدم الاستهانة بحجة الخصوم، وشكا فى أنها لو شدت حيلها شوية وسدت ثغراتها فقد تفوز. كما يترك لدى المنتصرين يقينا بأن حجتهم أيضا بها ثغرات، وأن أقلية معتبرة جدا ليست مقتنعة بها. أقلية معتبرة لا يمكن تجاهلها. أقلية معتبرة قد تصير أغلبية لو أثبتت حجة الأغلبية عدم كفاءتها.. أما هنا فلو اختلفنا حول مرسى، قدم لنا أناس اختيار شفيق وكأنه جنة الـ١٠٠٪، ولو اختلفنا حول شفيق قدم لنا أناس حمدين وكأنه جنة الـ١٠٠٪، ولو تعثرنا أقسم أناس أن الأمور -لو لم نتخذ قرارا معينا- لكانت نعيما مقيما. دائما رواية محددة سلفا، وكل شىء فيها متوقع. مع أن الحقيقة غير ذلك. أما كارثة الكوارث فهو أننا شهدنا انتخابات أسفرت عن نتيجة تشبه الانتخابات هناك. أغلبية ٥١٪. لكن العقلية التى تربت على الجنة والنار ولا شىء بينهما هى التى حازت تلك الأغلبية الضئيلة. وبدل أن يكون ذلك درسا لها فى أن المجتمعات متنوعة، وأن الناس ترى الصواب بطرق مختلفة، إذا برئيسهم يعبر عن عقليتهم تماما فيقول فى واحدة من أوائل خطبه إن الحق واضح أبلج والباطل مش عارف إيه لجلج. وطبعا يقصد أن الحق معه، مع الأغلبية الضئيلة التى انتخبته. الذكاء والعلام مش بالشهادات والله. كنت أود أن أقول إن شقاءنا نابع من سيطرة هذا التيار الطفولى النظرة على الأمور. لارتحت وقتها ولأملت فى أن تتعدل الأمور قريبا. إنما شقائى الحقيقى نابع من أن فكرة الجنة والنار تسيطر على تفكير الناس السياسى حتى خارج هذا التيار. انسى يا صديقتى الخيارات السابقة. انسى أنك كنت الحصيفة العظيمة التى علمت دائما الاختيار الصحيح الأكيد. انسى هذا فاختيارك لم يختبر. ولو اختبر لوجدت أن به من العيوب الكثير أيضا. هل أدركت سببا آخر يجلعنى أقول إن الجنة لو تحققت ستتحقق هناك؟! لأن الغرض من الديمقراطية، وحرية الآراء، التقريب بين الناس وليس التفريق بينهم. المجتمعات المستبدة تربى أبناءها على أن هناك «إجماعا» على شىء معين، من يخالفونه قلة منحرفة. أما الحرية فتكشف لهم العكس تماما. تكشف لهم أن الجنة والنار متقاربان أكثر كثيرا مما نظن. هذا أقرب إلى ما نراه فى الحياة من حولنا. أقرب إلى عقلنا البشرى العظيم.
المسافة الضيقة بين الجنة والنار
مقالات -
نشر:
20/6/2013 4:11 ص
–
تحديث
20/6/2013 9:18 ص