الرواية السلفية لأحداث الفتنة الكبرى تمتلئ بالنيات الطيبة وغيرة المحمودة. ولم يكن «المودودى» بالقطع بأقل منهم غيرة ونية طيبة، لكن الخطر الذى كان يحذر منه أن يختلّ- فى سبيل الدفاع عن الصحابة- «ميزان الخطأ والصواب».
لله دره حين قال إن الخلافة فى عهد أبى بكر وعمر لم تكن مهمتها مجرد تسيير نظام الدولة وتحقيق الأمن، وإنما كانت تقوم بواجبات المرشد والمعلم والمُربّى التى كان يضطلع بها النبى. ولقد كانت بداية التغيير حين أقال عثمان سعد بن أبى وقاص من الكوفة وولّى عليها أخاه لأمه الوليد بن عقبة، ونحّى أبا موسى الأشعرى عن البصرة وولّاها ابن خاله عبدالله بن عامر. وأقال عمرو بن العاص من مصر وولّاها لأخيه فى الرضاعة عبدالله بن سعد. وكان معاوية فى زمن عمر يلى دمشق فحسب فجمع بين يديه حمص وفلسطين والأردن ولبنان. وجعل ابن عمه مروان بن الحكم أميناً عاماً للدولة، فاجتمعت السلطات كلها فى يد أسرة واحدة.
يقول «المودودى» إن أحداً لا ينكر كفاءتهم، لكن المشكلة أنهم كانوا جميعا من الطلقاء الذين ظلوا معادين للإسلام حتى فتح مكة، فلم يستفيدوا من صحبة النبى ولم تتعلق قلوبهم بسيرة الرسول، وبالتالى لم يكن سلوك بعضهم يليق بأطهر مجتمع إسلامى على إثر النبوة.
وحينما غضب الناس وتأججت الثورة وجاءوا إلى المدينة لمواجهة سيدنا عثمان، لم يكن لديهم الحق شرعاً فى عزل الحاكم (فما بالك بقتله)، لكنهم استولوا على المدينة وجعلوا أهلها شبه عاجزين. أضف لذلك أن أحداً لم يكن يتوقع البتة أن تصل بهم الجرأة لقتل عثمان. وحين حدث ما حدث وتمت البيعة لـ«على»، لم تكن لديه القوة العسكرية للقبض على الثائرين ومحاكمتهم، خصوصاً حينما تخلف بعض كبار الصحابة عن بيعته، وحاربه البعض الآخر. كانت الأمور تسير فى طريق المُلك، وبذل الإمام على محاولات مستميتة لفرملة الاتجاه للمُلك والحفاظ على الخلافة، لكن الحروب تتابعت، ومن الجمل إلى صفين إلى الخوارج إلى تخاذل أنصاره وجدالهم، إلى يأسه وحزنه، إلى قتله، ونجاة معاوية الذى استتب له المُلك. وكانت الفرصة الأخيرة أن يعود الأمر للمسلمين بعد وفاته، ولكنه أبى إلا توريث ابنه يزيد، فصارت منذ ذلك الحين هرقلية وتغير تاريخ المسلمين.
وهكذا قُضى على الخلافة الراشدة قضاءً مبرماً. فيما بعد حينما صارت الوراثة هى القاعدة، واتبع الخلفاء الأمويون أسلوب عيش قيصر وكسرى، وأصبح بيت المال ملكاً للسلطان يتصرف فيه كيف يشاء، وزالت حرية الرأى تحت بطش السيف، وانتهت حكومة الشورى، وزالت استقلالية القضاء، وضاعت سيادة القانون، وظهرت العصبيات القومية بالمخالفة لتعاليم الإسلام، وقتها فقط أدرك الصحابة ما ضيّع الإمام علىّ حياته فى سبيل إقامته، والمصير الذى ضحى بروحه فى سبيل إنقاذ الأمة من الوقوع فيه. فهذا عبدالله بن عمر يقول فى آخر حياته: «ما أجدنى آسى على شىء إلا أنى لم أقاتل الفئة الباغية»، وهذا مسروق بن أجدع كان يستغفر لقعوده عن مساندة الإمام على، وقضى عبدالله بن عمرو بن العاص حياته نادماً أشد الندم على قتاله جند على مع معاوية.
كتاب «الخلافة والمُلك» لأبى الأعلى المودودى أنصحكم بأن تقرأوه.