هناك كثير من الناس يبسطون تداعيات ما بعد 30 يونيو، ويتحدثون عن إسقاط النظام وكأنه نزهة لا ثمن لها، ويقارنونه بما جرى مع مبارك، ويتصورون أنه يمكن أن يتكرر مع مرسى، ويتنحى الرجل، وتؤسس القوى «الثورية» لمدينتها الفاضلة.
ولعل من يرى منا المشاهد الحالية من لقاءات إعلامية مع حركة تمرد فى الصحف الكبرى والفضائيات يتذكر فورا ما جرى مع ائتلاف شباب الثورة وغيره من الائتلافات التى ظهرت أثناء ثورة 25 يناير وبعدها، وتوارى كثير منها بعد فترة قصيرة عن الأنظار، ومع أخطاء الجميع: النخب والائتلافات الثورية والمجلس العسكرى وصل الإخوان للسلطة، وهم ليسوا من أشعلوا ثورة 25 يناير.
ولعل أخطر ما فى طريقة التفكير التى حكمت كثيرا من قادة القوى الثورية هو اعتبار أن إسقاط كل ما له علاقة بالدولة القديمة هو الهدف الوحيد والإنجاز الأوحد، من دستور 71 إلى «لا دستور تحت حكم العسكر» إلى المطالبة بتسليم السلطة من المجلس العسكرى إلى رئيس البرلمان، فى مشهد عبثى غير مسبوق: أن يطالب البعض رأس السلطة التشريعية، المنتمى لجماعة الإخوان، بتسلم السلطة التنفيذية.
والمؤكد أنه قد جرت مياه كثيرة فى النهر، منذ الثورة حتى الآن، ونضج البعض، واستمر البعض الآخر على مراهقته وفشله، فهو غير قادر على أن يبحث فى أى بدائل ممكنة خارج نظرية «يسقط» الشهيرة، وعاجز أيضا عن ملء فراغ ما يُسقِطه.
وكما جرى بعد الثورة فإن طاقة القوى المدنية وُظِّفت من أجل أن يصل الإخوان للسلطة، والآن يجب أن توظَّف طاقة القوى الاحتجاجية، من أجل تغيير قواعد النظام الذى يحكم من خلاله الإخوان، فالهدف ليس إسقاط الإخوان وفقط أو إزالتهم من الوجود، وإدخال البلد فى فوضى عارمة وحرب شوارع، أو تسليمه لحكم عسكرى، بشروط الحكم العسكرى وليس شروط حركة تمرد، أو لحكم سلفى أو إخوانى معدل أو لحزب وطنى جديد.
والحقيقة أنه يجب أن تتغير عقلية تيار واسع من شباب القوى الاحتجاجية، وتتوقف عن اعتبار أن نقاءها الثورى وإخلاصها للثورة يتوقفان فقط عند إسقاط النظام الذى تثور عليه، دون أن تفكر للحظة فى النتائج والتبعات المترتبة على ذلك، ومنها دورها هى فى جنى ثمار التغيير (الإسقاط) ومعها الشعب المصرى الذى حلم بغد أفضل.
وبالتالى هذا الجنوح نحو ترديد جملة إسقاط النظام، دون بحث البديل الممكن، أمر سيضر أبلغ الضرر بقضية التغيير فى مصر، فمصر لم تصبح أفضل بعد سقوط مبارك، وقد تصبح أسوأ إذا سقط مرسى، دون بديل ديمقراطى واضح، لأن المطلوب هو تغيير النظام، وإنهاء سيطرة الإخوان عبر سلسلة من الإجراءات تبدأ، وبالحد الأدنى، بتغيير الحكومة لصالح حكومة خبراء ومستقلين من خارج الأحزاب، (بما يعنى ضرب مشروع التمكين والسيطرة فى مقتل، ولو مؤقتا)، وتنتهى بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة كمطلب ديمقراطى يحترم الآليات الديمقراطية.
إن السقوط السهل لمبارك قد أغرى الكثيرين بإمكانية تكراره مرة أخرى بنفس السهولة، ونسى أو تناسى أن هناك شعوبا دفعت من دماء شعبها مئات الآلاف من الضحايا، وبنت نظما فاشلة ترحم فيها الناس على النظام السابق، وبالتالى فإن المتاجرة بدماء الشباب أو الاستخفاف بالثمن الذى سيدفع من دماء البعض، لأنه بعيد عن كثيرين من نخبة الحكم والمعارضة، أمر يجب التوقف عنه، وعدم قبوله تحت أى ظرف.
إن مبارك قد سقط بعد 30 عاما من التجريف والتخريب جعلت نظامه أقرب إلى لا نظام، والمؤكد أن أحد العوامل الرئيسية وراء الانتصار السهل للثورة المصرية يكمن فى ضعف وهشاشة نظام مبارك، خاصة بعد حالة التجريف الشاملة التى فرضها على البلاد 30 عاما، وربما من حسن حظ الثورة أن كل قيادات نظام مبارك بمن فيهم قادة المؤسسة الوحيدة المتماسكة، (الجيش)، كانوا قد تجاوزوا سن السبعين، وبقوا فى أماكنهم مرؤوسين لمبارك، 20 عاما، مما جعل شرعيتهم فى الشارع محدودة، وقدرتهم على المبادرة معدومة، وهو أمر يختلف عن الوضع الحالى الذى يوجد به، صحيح، نظام فاشل، ولكنه يعتمد على جماعة، وتأييد قطاع من الشعب المصرى.
لقد وصل مرسى، على خلاف مبارك، بانتخابات حرة حصل فيها على أصوات 13 مليون مواطن مصرى (كثير منهم ندموا على انتخابه)، ونال الدستور موافقة 63% من الشعب المصرى، وأصبح هناك أساس لعملية سياسية مرفوضة أنتجت فشلا ذريعا، ومطلوب إعادة بنائها من جديد.
سيصبح المطلوب هو تغيير النظام، وليس بالضرورة إسقاطه، لأن الفارق بين الاثنين مهم للغاية، فتغيير النظام يعنى الانطلاق من أساس ديمقراطى يحترم أن هناك قسما من الشعب المصرى يؤيد الإخوان، وأن من يتصور أن الجماعة ستهاجر خارج مصر أو ستلقى فى السجون واهم، فهو يتعامل مع قطاع من الشعب المصرى وصل للسلطة وفشل فى إدارتها فشلا ذريعا، والمطلوب إخراجه منها بآلية ديمقراطية وليس إقصاءه من الحياة العامة والسياسية، كما يحاولون هم أن يفعلوا فى حق الآخرين وفشلوا.
وهذا أمر يختلف عن مبارك الذى صل للسلطة بالتزوير، واعتمد على أجهزة الأمن وشبكة مصالح، وحين سقطت الأولى وباعته الثانية سقط بكل سهولة، أما الوضع الحالى فرغم أن فشل مرسى ربما يفوق فشل مبارك فإن العمل على إسقاط رئيس منتخب، بغير آلية ديمقراطية، (انتخابات رئاسية مبكرة مثلا)، سيعنى فى الحقيقة إجراء تغيير للمرة الثانية على رأس النظام، دون تغيير فى جوهره، والدخول فى خطر المواجهة الأهلية العنيفة.
على الجميع أن يدفع من أجل إنجاح التظاهر السلمى، والدفع بملايين من أبناء الشعب المصرى، للتعبير عن رفضهم حكم مرسى سلميا، فمن حكومة فاشلة إلى حركة محافظين أفشل إلى انتقام وتصفية حسابات مع الدولة ومؤسساتها نقلنا حكم المرشد من فشل إلى فشل.
إن مواجهة فشل الإخوان يجب أن تكون ببديل ديمقراطى لا يعتبر أن إسقاطهم هو الهدف، لأنهم قد يسقطون من الباب، ويعودون من الشباك، إنما تغيير الأساس الذى اعتمدوا عليه، وأوصلهم للحكم، وصار من الواضح أن أغلب الشعب المصرى لن يختار رئيسا إخوانيا مرة أخرى.
ثقوا فى الشعب المصرى ليس فقط كصوت احتجاج، إنما كشعب قادر على بناء نظام ديمقراطى بديل لحكم الإخوان، وعلى الجميع أن يتجاوز أخطاء الماضى، ويعتبر أنه هذه المرة يواجه فريقا سياسيا سيظل موجودا ولو فى المعارضة، فالمطلوب هو تغيير قواعد اللعبة السياسية من دستور وقانون انتخابات وحكومة فاشلة ومحافظين أفشل، ووضع أساس لنظام جديد ليس مهما من سيحكم فيه، لأنه سيكون على أسس عادلة وشفافة، لا أن نسقط رأس نظام، ونحتفظ بنفس عيوب النظام القديم القابل للتوظيف مرة أخرى من قبل أى مستبد غير عادل.