انحدرت مصر وأصبحت تسكن فى المنطقة الحمراء، فى أدنى درجات سلم الخريطة التى أصدرتها المنظمة العالمية لحرية الأديان، وهى تأتى فى إطار تقرير موسع يرصد مؤشرات التسامح الدينى حول العالم، ويعنى اللون الأحمر أن هناك: «حالة من العنف الشديد ضد الأقليات الدينية، تدور بشكل منتظم، ولا تتدخل الدولة لوقفها»، هناك ألوان أخرى على الخريطة أقل حدة، اللون البرتقالى، فى الحالة التى تتدخل فيها الدولة لوقف العنف ضد الأقليات وتضع القانون ليكون حكما بين المواطنين، ولكنها دول التهديدات فيها ما زالت قائمة، ولم تبتعد بعد عن منطقة التعصب لتقترب من منطقة التسامح، أما اللون الأصفر فهو للدول القادرة على إقرار الحوار، ووضع قواعد للعيش المشترك رغم اختلاف الأديان، أى أنها دول بدأت رحلتها نحو التسامح، ولكن المنطقة الحمراء التى تقف فيها مصر هى منطقة مغلقة، بلا حوار، ولا نزعة للتسامح، يشاركها فى ذلك عدد من الدول السيئة السمعة فى إفريقيا وآسيا، ولكن مصر ونيجيريا فقط هما المنطقتان التى تسوء فيهما الأمور يوما بعد آخر، فهما تعانيان من مشكلات خطيرة فى هذا المجال، ولكن السلطات تتباطأ، أو لا تبذل جهدا لحماية الأقليات الدينية، وبالنسبة إلى مصر فإن التغاضى عن تحميل المسؤولية لمن يقوم بالاعتداء على هذه الأقليات الدينية أو تدمير أماكن العبادة الخاصة بها يعطى الفاعل نوعا من الحصانة، وهذه خطيئة النظام الكبرى، كما يقول التقرير.
ربما لا يتصور أحد مدى سواد المنظار الذى أصبح العالم يشاهد به مصر، بلد التسامح والحضارة العتيدة كما كنا نعتقد، فنحن كشعب ننحرف عن قيمنا الإنسانية ونغرق تدريجيا فى مستنقع من الكراهية والعنف، وقد تصاعدت هذه الوتيرة مع صعود التيار الدينى إلى قمة السلطة، ومن المؤسف أن تنجرف مؤسسات الدولة مع هذا التيار المتعصب، فقد أغرقت الجماعات المتطرفة المحاكم بقضايا «ازدراء الأديان»، وهى فى معظمها قضايا كيدية ومختلقة، إلا أن نخبة من القضاة المتعصبين أصبحوا ينظرونها ويصدرون فيها أغرب الأحكام، ويوصف تقرير منظمة العفو الدولية «أمنيستى» هذه الموجة من القضايا فى مصر مؤخرا: «الاتهامات الجنائية، والغرامات الباهظة، والحكم بالسجن وفى العديد من الحالات، ضد أناس عبّروا ببساطة عما يدور فى عقولهم، أو اعتنقوا مبادئ دينية مخالفة، وكل هذه أمور فاضحة وخارجة عن القانون الدولى»، على حد تعبير فيليب لوثر المدير الإقليمى للمنظمة الدولية، ويستعرض التقرير عشرات الحالات التى وجهت فيها تهمة ازدراء الأديان للعديد من النشطاء، ومنذ أيام قليلة فقط أصر قاضى الأقصر المتعصب على مواصلة قضية الازدراء ضد معلمة مسيحية شابة هى دميانة عبد النور، وعاقبها بغرامة قدرها مئة ألف جنيه، ووجه لها تهمة إهانة الدين الإسلامى، وحض التلاميذ على الدخول فى المسيحية، سبقتها غرامة أخرى قدرها 20 ألفا على سبيل الكفالة، ولا أحد يدرى كيف طاوع القاضى ضميره بإصدار هذا الحكم الباهظ والاستجابة لروح التعصب الذى تحيط به، فالواقعة ليست منطقية، وشهودها مجرد أطفال صغار، لم يبلغوا سن الثامنة عشرة، ولا تقبل شهادتهم أمام المحكمة إلا على سبيل الاستدلال، ولكن المحكمة اعتمدت على شهادة بعض أولياء الأمور الذين لم يكونوا حضورا فى الواقعة، تؤازرهم فى ذلك كتيبة من المحامين المتطرفين.
ولم نكد نخرج من مدن الصعيد، فقد حكمت محكمة أسيوط غيابيا على قبطى آخر هو «رومانى مراد سعد» ويعمل محاميا، بالسجن لمدة عام وبغرامة قدرها 500 جنيه، ومئة ألف جنيه للمدعين عليه بالحق المدنى، ومصدر التهمة هو شكوى اثنين من المحامين، زملائه فى المهنة، كان ثلاثتهم يجلسون معا فى جلسة خاصة فى مكتبة نقابة المحامين، وسأله واحد منهما، عن رأيه فى المعجزات التى تحدث عنها الإنجيل، ورغم أن المحامى الشاب حاول جهده تفادى الإجابة عن السؤال، إلا أنه فوجئ بأنهما قد تقدما بشكوى ضده تتهمه بازدراء الأديان، وكان المحامى الشاب قد تلقى تحذيرا مسبقا من أعضاء الجماعة الإسلامية حتى يحتفظ برأيه لنفسه عندما أبدى امتعاضه من فوز الرئيس مرسى بمنصب رئيس الجمهورية، ولم يستطع محاميه حضور التحقيق معه بسبب تهديدات هذه الجماعة، وكان حضورها فى قاعة المحكمة كثيفا، وبدا أن القاضى نفسه لن يستطيع الحفاظ على سلامته أو السير فى إجراءات القضية بطريقة صحيحة، فقد كانت الأصوات ترتفع صائحة مطالبة بإعدامه، وحاول محاميه عبثا نقل القضية إلى القاهرة بعيدا عن هذا الجو المفعم بالتعصب، ولا أعتقد أن الوضع كان سيختلف قليلا.
تنتشر قضايا ازدراء الأديان فى مصر كالوباء، تنزف من سمعتها، وتنال من مصداقيتها، وتشكل صورة سوداوية لوطن مريض بما فيه من تعصب فكرى وعدم قبول للآخر، ولا يقع اللوم على الجماعات الدينية القادمة من القرون الوسطى فقط، ولكن كثيرا من اللوم يقع على عاتق بعض القضاة، فأحكامهم قد أصبحت مصدرا لاستغراب العالم، وجعلتنا نغرق فى مزيد من اللون الأحمر، خصوصا مع ارتفاع السعار الذى تثيره القوى الدينية بسبب اقتراب موعد 30 يونيو، وهو اليوم الذى يطالب فيه الشعب المصرى وقواه الوطنية من الرئيس بأن يرحل، وبدلا من أن يمثل هذا إنذارا للرئيس وجماعته، ويضعهم فى وقفة لمراجعة طريقة إدارتهم للبلاد والتى قادتها إلى الكارثة، بدلا من ذلك ترك الساحة للقوى الموالية له تلوح بتهديدات الحرق والقتل، وتصنع من سلاح التكفير سلاحا تشهره فى وجه من يخالفها فى الرأى، وقد جعلت من مرسى ونظامه رمزا لمشروع إسلامى، لم نر شيئا من ملامحه، وتقودنا هذه القوى المتطرفة رغما عنا إلى المنطقة الحمراء، والحديث عن التكفير والتآمر لن يجدى مع شباب «تمرد»، فهى لا تخاطب قوى المعارضة التقليدية، ولكن الرئيس ونظامه يواجهون شباب الموجة الثانية للثورة، شباب نضجوا فى العامين الماضيين كما لم تنضج أجيال على مدى أعوام عديدة، رافقوا الشهداء الذين كانوا يكبرونهم بسنوات قليلة وشاهدوا موتهم بلا ثمن، وتعلموا درسا قاسيا من سرقة الثورة على يد حفنة من الملتحين الذين لم يشاركوا فى صنعها، ولاحقتهم جحافل الأمن السرية فانتزعتهم من بيوت أهاليهم ومن مقاعد دراستهم، قاسوا من التعذيب فى معسكرات الأمن على يد الشرطة وفى الشارع على يد بلطجية الإخوان، وبدت علامة النضوج المبكر لهذا الجيل، عندما لم يشق طريقه إلى ميدان الثورة إلا بعد أن حصل على موافقة من جموع الأمة، وفق توكيلات مكتوبة، فعل ذلك ببساطة ودون تعصب وفى رغبة خالصة من السلمية، وهم على صغر تجربتهم يدركون مدى ضراوة القوة التى تواجههم، فالرئيس الذى اختار واحدا من القتلة المحترفين ليكون مساعدا له لن يرعوى عن فعل أى شىء، ولكن هؤلاء الشباب بنضجهم المبكر، وحرارة عشقهم للوطن، هم وحدهم القادرون على إنقاذ مصر من مستنقع التعصب الأحمر الذى تغوص فيه.