الثائر القادم من ثقافة سياسية مختلفة، ولهذا بدت حركته بعد الاستقبال الأول مرتبكة ومتلعثمة، وهذا ما اعتبرته وقتها ميزة، لأنها حركة تخرج به من حيز موديلات المعارضة الجاهزة والقوالب المصنوعة التي صنعها مبارك .. إلى آفاق أخرى لا يمكن إنكار تأثيرها فى تحفيز الخيال الجديد الذى قاد ثورة ٢٥ يناير.
هو الذي لم يتنازل يوماً عن مبادئه رغم المغريات التي عرضت عليه من الجميع سلطة ومعارضة، وأعلن خروجه من لعبة الرئاسة .. احترامًا لمبادئ لم تكن متاحة عند كثير من الساسة. الخروج من اللعبة لم يكن بحسابات سياسية، لكنه بروح غاندى، الراغبة فى معاندة المزاج السياسى الرديء لا خوض المنافسات بقوانينه، وهو ما مثل ضربة مزدوجة لكل من اعتبر البرادعى رمز الليبرالية فى مواجهة رموز سلفية وإخوانية، أو من تعامل على أنه «زعيم سياسى» يمكنه أن يخوض حربًا فى بيئة سياسية غير صالحة.
البرادعي عاد للمشهد مع جولة الإعادة في إنتخابات كان نجاح أحد المرشحين هو قمة الخسارة.. نجاح أحمد شفيق خسارة لثورة قامت على نظام لإسقاطه .. ونجاح محمد مرسى هو خسارة لحلم الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة.. دولة ليست عسكرية وليست دينية، دولة تمنح حق المواطنة الكاملة للجميع بلا تمييز، حسب اللون أو الدين أو الجنس.. فمحمد مرسى كان مرشح جماعة دينية وصلت إلى قمة النظام باسم الدين أولًا وباسم الثورة ثانيًا.. ومرة أخرى لجمع شتات الفرقاء من المعارضة في جبهة الإنقاذ الوطني ضد الإعلان الدستوري وضد الحكومة الحالية التي فشلت في حل كل قضايا الوطن وضد الدستور الذي أصدرته الجماعة حالمين أن يكونوا «الأمر الواقع» لهذا البلد، ويَرِثون مكانا يستطيعون به إعادة تفصيل الدولة على مقاسه.. متصورين أن كتالوج هذا التفصيل هو الدستور الذي إنفردوا به ليس الآن، ولكن منذ استفتاء ١٩ مارس حين جهزت عقلية التحايل الإخوانية أفخاخا لمصر كلها بترتيب خطة إستولوا فيها على مفاتيح كتابة الدستور، ولو أدخلوا البلد كله من متاهة إلى متاهة، ومن توريط للعسكر إلى دفعهم خارج المشهد.. ثم إلى الصدام وتدمير مؤسسات الدولة ثم السيطرة عليها.
هذا الرجل الذي ظلم نفسه وظلمنا معه عندما قرر الخروج من اللعبة القذرة كي لا يصطدم بأحد سواءً كانوا عسكر أو إخوان أو حتى الثوار الذين تبنوا فكر الإخوان في عبارة «لا دستور تحت حكم العسكر .. الرئاسة أولاً» ورغم تحذيراته للجميع بالخطر القادم وانسحابه من الإنتخابات لهذا السبب إلا أننا تبنينا تلك المراهقة السياسية فارضين حسن النوايا.
٣٠ يونيو .. هو اليوم المشهود في مصر الأن .. يومٌ قررنا نحن فيه الثورة على الإخوان ونظامهم، فتبنوه الفلول أملين في تحقيق ما حققه الإخوان في ٢٥ يناير بالركوب على الثورة .. الثورة التي لم تكن يوماً في أدبيات الإخوان وقطعاً بعيدة عن خيالات الفلول .. وليس من حق أحد منع أي مصري من المشاركة لكنها مشاركة على المستوى الشعبي العام لا على مستوى القيادة .. فلا الثوار سيقبلوا بهذا على الإطلاق ولا الشعب البسيط الغاضب الذي ثار على الفلول يوماً سيتبنى الفكرة .. المطلوب الأن وبعد أن تم الإتفاق على ما بعد ٣٠ يونيو من حيث أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية منصب الرئاسة الشرفية، والمضي في صياغة دستور جديد أو تعديل الحالي أو العودة لدستور ١٩٧١ بتعديلات جديدة، وتولي شخصية وطنية ثورية يتفق عليها معظم المصريين وخاصة الثوريون منهم .. أن تكون للثورة قيادة حقيقية متمثلة في شخص ثوري حقيقي يتبنى مطالبها ويحميها من قفزة الفلول على قيادتها.
لن يتفق المصريون على واحداً من هؤلاء الذين خاضوا مسرحية إنتخابات الرئاسة سواء كان بسبب عقيدته السياسية أو تصرفاته السازجة بعد خسارته، وللأسف لم تفرز الفترة السيئة الماضية شخصيات جديدة تكون جديرة بحق عن قيادة الموجة الثانية من الثورة التي فشلت موجتها الأولى في تحقيق باقي أهدافها بسبب إنعدام القيادة ولا يوجد هناك سبب أخر لفشلها سوى هذا.
الرجل الذي كان صاحب فكرة الثورة هو الأجدر بقياداتها الأن وليس أحداً سواه .. فهوى الذي يحترموه المعارضين يخشوه الإخوان ويهابونه الفلول الذين لن يستطيعوا أن يقفزوا في وجوده .. فهوا ليس من هؤلاء الخائنين لشعوبهم ولا من أولئك المتفاوضين على مبادئهم .. هو البرادعي بكل ما يمثله من قوة أمام الظالم وضعف أمام المظلوم.
البرادعي هو الذي على مدى أربعة أعوام لم يستسلم للأمر الواقع .. بل هو الذي غير ومازال يغير الواقع.