من أجل تمكين الدولة العبرية من أن تصبح يهودية خالصة فى المدى القريب، دفعت الولايات المتحدة ـ ومعها الصهاينة ـ بالاتجاهات السياسية، مدعية الأصولية الدينية، ومعها مدعية الاستنارة لسرقة التحولات التاريخية المسماة بالربيع العربى، وتم إفساح المجال لعشرات المحطات الفضائية المتاجرة بالدين وبالجنس معاً، غير أن المفارقة المذهلة هى أنه ببركة هؤلاء الأصوليين والمستنيرين، وببركة تلك المحطات يتزايد عدد المتجهين للإلحاد فى صفوف الشباب والشابات من مصر ومن بقية دول المنطقة، ويزداد عدد الذين يقومون بمراجعات جوهرية لأسس منطلقاتهم الفكرية والسياسية، بعد أن اكتشفوا زيف ما كان يسمى «اتجاه الاستنارة الإسلامية» ومن كانوا يعدون رموزاً له.
نحن أمام موجة إلحادية عاتية ومعها موجة افتراق شديدة بين الوطنية والقومية وبين عامل الدين، وأظن أن هاتين الموجتين ستزدادان شدة واتساعاً، لتشملا قطاعات أوسع من المجتمعات، التى تعيش ما يطلق عليه «الربيع العربى».
وبعيداً عن المسؤولية الأخلاقية والأخرى الشرعية فإن المسؤولية السياسية والتاريخية تقتضى أن يفتح ملف دور تلك الاتجاهات والمحطات وما يشابهها من صحف ودور نشر تؤدى المهمة نفسها فى تدمير «الدولة الوطنية»، وتدمير مقومات الشخصية المصرية والعربية، واستئصال التأثير المعنوى الكبير والعميق الذى كان للدين فى تعظيم المسيرة الوطنية والقومية لمصر ولبقية الأمة العربية.
إنه ملف حافل بالبنود التى يبدو بعضها معقداً إلى حد كبير إذ- على سبيل المثال- نجد سعياً حثيثاً لتفكيك الدولة الوطنية قامت به تلك الاتجاهات، مدعية الارتكان لمرجعية دينية إسلامية، وفى الوقت نفسه نجد سعياً متوثباً على ناحية أخرى هى الترويج لاندماج الدولة الوطنية فى تكوين أكبر هو دولة الخلافة الإسلامية.
فى السعى الأول- التفكيك- بدأ الأمر بإثارة قضايا الثنائيات المتعارضة فى أذهانهم مثل «الأصالة والمعاصرة»، «الدين والوطنية»، «الدين والقومية»، «التدين والعلمانية»، «التراث والحداثة».. وغيرها من العناوين التى نذكر أنها راجت رواجاً شديداً فى فترة الثمانينيات، وعقدت لأجلها ندوات ومؤتمرات، ودارت مواجهات وتم جرجرة عقل الأمة إلى الانشغال بما لا تصادم بين أطرافه أصلاً!
وبعدما أصبح معتاداً الحديث فى ثنائيات متصادمة من ذلك النوع تمت نقلة أخرى هى ثنائيات أشد خطورة «إسلام- أديان أخرى» ثم «مسلم- غير مسلم» ثم «مسلم- مسيحى»، وبعدها إلى ثنائيات أخطر «دين صحيح- دين غير صحيح» ثم «سنى- شيعى» ثم «سنى سلفى- سنى غير سلفى» ثم «سنى سلفى جهادى- سنى سلفى حزبى»!
وفى هذه الأيام وبعد أن سرقوا ثمار التحولات السياسية الكبرى، وجلسوا على دكة الحكم، اعتماداً على دعم أمريكا ومباركة إسرائيل وترويع المجتمع والدولة بمخاطر عدم وصولهم للحكم، بدأ السعى الإجرامى الأكثر خطورة وهو إنهاء وجود الدولة الوطنية!
وتأتى حلقة الزار التى أقيمت فى الصالة المغطاة باستاد القاهرة بدعوى مواجهة النظام السورى كخطوة مهمة وواضحة فى اتجاه تدمير الوطنية المصرية!
قبلها كان أحد الأعراب يخطب الجمعة فى مسجد عمرو بن العاص، ولا أعرف كيف وصلت الحال بمصر إلى هذا الدرك الأسفل، عندما يأتيها أعرابى ليبث الوعى الدينى فى نفوس بعض أهلها.. وقد كان «فجر الضمير» للبشرية كلها هنا فى مصر، وقبل الأديان السماوية بألفى عام، كما كتب جيمس هنرى برستد فى كتابه شديد الأهمية!
جاء الأعرابى، وأظن أن اسمه العريفى ليبشر بالخلافة، واختار جامع عمرو بن العاص، وكأن فى ذلك إشارة إلى فتح مصر للمرة الثانية على يد العريفى بعد ابن العاص.. وهذا يعد مزيداً من الخطوات فى طريق تحطيم الدولة الوطنية المصرية!
إننى سوف أستكمل هذا السياق فى مقال مقبل، ولذا أختم بأن أنهر ذلك الأعرابى، وأطلب إليه أن يعود إلى مضاربه فى البادية، حيث اقتتل عبس وذبيان، واشتعلت حرب البسوس، وسرق الحجر الأسود، وضربت الكعبة بالمنجنيق!
وأقول للأعرابى: العيب ليس منك، ولكنه من المنافقين المتاجرين، الذين سمحوا لك بأن تبيع المياه فى حارة السقايين
a_algammal@yahoo.co.uk
.