فى ذكرى مقتل فرج فودة أسترجع رسالة كتبها إهداء لأصدقاء ابنه:
«إلى زملاء ولدى الصغير أحمد، الذين رفضوا حضور عيد ميلاده تصديقا لمقولة آبائهم عنى، إليهم حين يكبرون ويقرأون ويدركون أننى دافعت عنهم وعن مستقبلهم، وأن ما فعلوه كان أقسى من رصاص جيل آبائهم».. يقين عميق بأن أصدقاء ابنه سيقرأون ويدركون يوماً ما.
فيما مضى كانت الحكومات تعتقل الأحرار وكان الشباب يستاء ويحتج ويموت. اليوم، الشباب الملتحى يخطف ويحبس ويطلق أحكام الإعدام، والحكومات تتفرج وتشجع.
أبوالعلا عبدربه أحد الضالعين بجريمة ذبح الثقافة. حرره الرئيس المصرى مرسى. خرج أبوالعلا. عاش الإرهاب. سقطت الثقافة. وجثة فودة تبشر بعذاب عربى جديد. فودة مجرم.. جريمته أنه فكر من زاوية مختلفة.
حين يرفع الملتحى خنجره ليطعن محفوظ أو فودة، أو ليرفع قضية مطالباً بحبس وتغريم أحد الكفار، فهو لا يدافع عن عقيدته بل عن غبائه ومحدودية فكره، إطلاق المفكرين يكشف فكر المتأسلمين الفارغ من كل شىء. يعجز عن تفسير ظواهر الكون فينكرها. يعجز عن القراءة فيكفر الكتاب. كلها أمور عصفت بنا حتى اعتاد بعضنا عليها.
مرت الثمانينيات وكانت صور المرأة تمنع منعا باتا من الظهور عبر وسائل الإعلام السعودية من صحف ومجلات، حتى لو كانت مسؤولة تزور البلاد، الأصح القول بأن المرأة اختفت ولم تعد موجودة طيلة سنوات الخوف. كل شىء تحت قبضة الرقابة. مجلات، كتب، إعلانات، مسلسلات، أفلام، لا شىء يعرض على المواطن قبل أن تقصه وتشذبه وتهذبه أدوات الرقابة الإسلامية، وتجعله صالحاً للعرض السعودى حتى لو وصلنا مهترئا ميتا لا لون له ولا نكهة. فقط لأن أصحاب اللحى معترضون على التبرج والسفور والفلسفة والمنطق والفن والتمثيل والأزياء والألوان والموسيقى والفرح والمرأة والفكر والرقص والتكنولوجيا والتقدم. كانت هذه واحدة من صور الحياة هنا بعد محاولة جهيمان العتيبى احتلال الكعبة وتغيير نظام الحكم فى أواخر السبعينيات. الغريب أن الذى حدث بعدها هو ارتماء الحكومة فى أحضان أصحاب اللحى خوفا من تحرك غاضب جديد بدلا من علاج التطرف. كل شىء صار ممنوعاً، وانفلت أصحاب اللحى بالشوارع يرهبون المواطنين تحت ستار نشر الفضيلة. وصار من الطبيعى أن تشن الهجمات ضد الكتاب والمفكرين لأجل كلمة أو مقالة، وترفع القضايا التى تكفر وتتهم بالردة والإلحاد كل ذى صاحب رأى مختلف وتشوه سمعة المثقفات والناشطات بتهم مختلفة. ومن الطبيعى أن أسير فى الشارع فيوقفنى شخص ليصرخ بوجهى شاتما حجابى السافر ووجهى المكشوف. ومن الطبيعى أن تدخل المكتبات فلا تجد كتباً تبحث عنها لأنها ممنوعة بأمر رقابى. ومن الطبيعى ألا تتابع القناة المحلية لأنها لا تحوى شيئاً. ومن الطبيعى أن يصلك خبر دخول أحدهم السجن بتهمة الردة لكلمات كتبها بجريدة، ومن الطبيعى أن يهدر دم كاتب أو صحفى لأنه يحكم على الأمور بغير حكم التيار الإسلامى. هكذا يصبح وطنك مكانا لتجميع الممنوعات.
وهذا هو عهد السلف الإسلاميين حين يسيطرون، لا حياء. لا مروءة. لا حضارة. فإما أن يسير كل شىء حسب المبتغى أو يكون الحل هو السيف.
قبل يومين كتب الدكتور القدير أيمن الجندى صاحب العمود الجميل (الكثير من الحب)، مقالا عنوانه «خطأ فودة» بعد مقالة بعنوان «صواب فودة». وضمن أخطاء فودة برأى الدكتور الجندى أنه يركز على السواد من التاريخ الإسلامى العظيم. لا أعلم ما العيب فى إبراز السواد، فحتى الأمم المتحضرة تبرز السواد بتاريخها وحاضرها بل تركز عليه لتفاديه. إن الاعتناء المفرط بالتاريخ وتفضيله على الحاضر دفع لتقديس السلف والأولين واعتبارهم بمنزلة الأنبياء. هناك الصحابة وهناك التابعون وتابعو تابعى التابعين، وابن فلان وابن ابن فلان، وسلسلة تاريخية لا نهاية لها تحكمنا، فى مقابل الثقافة الغربية التى تشرح بنفسها أخطاء الماضى، أقرب مثال السينما هناك وكم الأفلام التى عرضت لإبراز السواد من التاريخ الغربى والمسيحى. لا أحد يخجل من المجازر التى ارتكبت والمؤامرات الدنيئة التى حيكت، ومن دور الكنيسة المظلم فى فترات التاريخ الكئيب. تلك شعوب تجاوزت حتى نفسها.
إرث فرج فودة هو ملك للعرب جميعاً، ودمه حق يطالب به كل العرب. دم هؤلاء المفكرين تحول لحق عام لا يخص عائلاتهم وحدها، ولا مصر وحدها، ولا الرئيس المصرى وحده.