تأمل مجموعة من الأحداث وابحث عما إذا كان هناك رابط بينها: أولها كان فى فبراير الماضى عندما قامت القوات الفرنسية مدعمة بقوات من دول أفريقية أخرى بوقف زحف تيار السلفية الجهادية على العاصمة المالية باماكو ودفعه دفعاً بعيدا عن المدن والقرى التى احتلها حتى تم تحرير الدولة منها.
وثانيها جرى خلال شهرى مايو الماضى ويونيو الجارى عندما تمكنت قوات النظام البعثى السورى بالتعاون مع قوات إيرانية وفرق مسلحة من حزب الله اللبنانى من دفع قوات الثورة بعيداً عن مدينة القصير الاستراتيجية، مما بدا كما لو كان تحولاً فى مسار الثورة السورية. ولم يكن الأمر هو أن النظام السورى أحرز انتصاراً فى معركة خلال حرب لاتزال طويلة، ولكن لأن حلفاء الثورة وقفوا بعيداً عنها بينما التدخل الإقليمى جار ومشهر.
ولا يوجد تعليق على هذا الموقف سوى أن هؤلاء الحلفاء وجدوا أنه لا يمكن القبول بانتصار ثورة تلعب فيها حركة الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية التابعة لتنظيم القاعدة دوراً رائداً، ومن ثم فإن سوريا لن تتخلص من نظام ديكتاتورى لكى يحل محله آخر ديمقراطى وإنما سوف يأتى نظام آخر من نفس العينة ولكن بأيديولوجية أخرى. وثالثها أن رياح الربيع العربى هلت مرة أخرى فى اسطنبول وتبعتها أربعون مدينة تركية أخرى خلال يونيو الجارى، وكانت الثورة هذه المرة ذات بداية تتعلق بالأشجار، ولكنها ما لبثت أن تعلقت بحكم حزب العدالة والتنمية من أصحاب الهوى السياسى العثمانى ومدى «الديكتوقراطية» التى يحكم بها. ومهما عمت الدهشة تركيا فإن حقيقة وجود ميدان التحرير المصرى فى قلب ميدان «تقسيم» التركى كانت واضحة وناصعة.
ورابعها، وربما أهمها فى مقامنا هذا، فإن الأسابيع الماضية التى بدأت من شهر إبريل المنصرم وحتى الآن شهدت بزوغ حركة «تمرد» المصرية وسعيها لإسقاط نظام الحكم الذى يقوده حزب الحرية والعدالة، ومن ورائه حركة الإخوان المسلمين، عن طريق جمع توقيعات مليونية تقول بنزع الشرعية عن النظام القائم. كانت هذه هى المرة الثالثة خلال أقل من ثلاثة أعوام يسعى فيها الشباب لإسقاط نظام الحكم، وبدأت بنظام مبارك، ثم الثانية بنظام «العسكر»، وهاهى تبدأ محاولة ثالثة يبدو النظر إليها فى الإطار المصرى محيراً حيث يأتى النداء الجديد إزاء حكم منتخب، أما إذا جرت النظرة له فى الإطار الإقليمى فإن المشهد يبدو كما لو كان ثورة جديدة على الثورة القديمة ونتائجها عندما انتهت الثورة عملياً بتحالف بين الإخوان المسلمين والقوى الثورية فيما عرف باتفاق «فيرمونت» للوقوف فى وجه النظام القديم والعمل من أجل الفوز فى الانتخابات الرئاسية لصالح مرشح حزب الحرية والعدالة.
فمنذ عام مضى كان واضحاً أن حركة الإخوان نجحت فى تقدم الظاهرة الثورية التى عرفت بالربيع العربى، وبدا الأمر كله كما لو كان موجة عاتية لا تختلف مظاهرها فى تونس عنها فى القاهرة، وقد يكون العنف أكثر قسوة فى ليبيا واليمن وحتى سوريا إلا أن القوى ذاتها وقفت فى المقدمة. ورغم أن هذه القوى السياسية التاريخية لم يكن مرحباً بها دائماً من بقية القوى السياسية المختلفة ذات الطابع المدنى، أو حتى الدينى المعتدل، فإنها نجحت فى ميزان السياسة أن تكون الأكثر تفضيلاً عن النظم العسكرية والاستبدادية القائمة، وهكذا حصلت على فرصة تاريخية عظمى حيث جاء التأييد ليس من الداخل فقط، بل إن قوى دولية مهمة وجدت فيها تعبيراً أفضل عن الواقع الثقافى والسياسى السائد فى المنطقة. ولكن لم يمض على التجربة عام واحد حتى بدأت المراجعة، ومن بعدها بدأ التراجع، ولم يمض وقت طويل حتى حدث الهجوم المضاد الذى انتابته أعاجيب كثيرة من نوعية تلك التى جرت فى سوريا وتركيا، والآن تجرى فى مصر حينما تحدد يوم الثلاثين من يونيو لكى يكون يوم القيامة الجديد حيث ينتهى نظام ويبدأ آخر.
لم أذهب إلى مكان داخل مصر وخارجها إلا وكان السؤال هو: ما الذى سوف ينتهى إليه يوم الثلاثين من يونيو؟ حتى بدا الأمر مقلقاً إلى حد كبير، ليس خوفاً ممن سوف ينتصر أو ينهزم فى هذا اليوم، ولكن خوفاً على مصر ذاتها. اليوم يبدو كيوم القيامة، فالشباب الذى لم يتعب بعد من عملية التغيير الكبرى يقوم بالتجهيز الشرعى من خلال التوقيعات التى يجمعها ويحشد من خلالها الجماهير، بالقدر الذى يقوم بالتجهيز العملى الذى يوزع الأدوار لهذا اليوم التاريخى المشهود بالملايين.
على الجانب الآخر فإن السلطة هى الأخرى لا تحتاج كثيراً لتجهيز شرعى، فقد فازت فى الانتخابات التشريعية والرئاسية، ولديها ثقة فى قدراتها التنظيمية المدربة على الحشد والتعبئة، كما أن لديها ثقة فى الشعب المصرى ذاته الذى سوف يتساءل عما إذا كان الشباب على صواب هذه المرة بطريقة مختلفة عما كان عليه من صحة فى الحكم على الأمور فى السابق. ميزان القوى غير حاسم، ولا أحد يعرف حجم قوى التضحية على الجانبين، وغير معروف ما سوف يكون عليه موقف أجهزة الدولة الأمنية وهل ستقف مع الشرعية الرسمية، أم أنها سوف تفعل ما فعلته فى السابق من الوقوف موقف الحياد فتعلن أنها لن تشتبك مع الجماهير الشعبية. المهم هنا أن «السياسة» غائبة وهو غالباً ما يحدث فى أيام القيامة التى يعرفها البشر، وهى أيام مختلفة تماماً عن يوم الحشر العظيم.
كل ما عرفناه حتى اليوم عن يوم القيامة الجديد عرفناه من قبل، والأقرب إليه أن فيه من العنف مدى بعيداً، ربما لن يختلف كثيراً عن أيام سابقة كانت فيها واقعة للجمل، وأخرى فى شارع محمد محمود، وثالثة فى شارع مجلس الوزراء، ورابعة فى العباسية، وخامسة عند قصر الاتحادية، وسادسة فى ماسبيرو، وهكذا أحداث سالت فيها دماء مصرية، وكان فيها شهداء وجرحى حتى ولو كنا لا نعرف شيئاً عن معنى الشهادة فى تلك الأيام. ففى عرف جيلنا أن الشهادة تأتى يوم الدفاع عن الوطن ضد معتد أجنبى، أما عندما تكون على يد مصرى آخر فإن الأمر كله سوف يتوقف على المعسكر الذى تقف فيه. ولكن الدلالة هنا واضحة، وهى أن مصر غائبة، ولم تجر المحافظة عليها فى كل المعارك السابقة، ولا جرت حمايتها من هجمات الإرهابيين الذين وجدوا فى بلادنا موطناً، ولم تتقدم خطوة واحدة بعد الثورة عما كانت عليه قبلها، والكارثة الكبرى باتت أن إحراق الوطن لم يعد من ضمن الجرائم القومية.
الأمر كله يبدو وكأنه يحدث فى ظل سياق تاريخى تكون له دوراته وموجاته التى تذهب وتجىء، وكانت قناعتى الدائمة أن ما جرى منذ أكثر من عامين كان مجرد بداية لعملية أكبر من الخيال سوف تستمر معنا حتى نهاية العقد الحالى وربما ما بعده. ومن يظن أن يوم الثلاثين من يونيو سوف يضع خط النهاية هنا أو هناك فإنه لا يعلم الكثير عن أيام القيامة البشرية.