جريمة لا تغتفر، اسمها التأليف من الباطن. الطرفان متعادلان فى الإدانة من يكتب أو يلحن مقابل أجر، ومن ينسب لنفسه «جينات» فنية حراما. كنت قد قرأت مجددا مذكرات نجيب الريحانى التى أصدرتها «دار الهلال» بعد رحيله عام 49 بعدة سنوات، وراجعها قبل النشر رفيق مشواره بديع خيرى توأمه الفنى والروحى.
ذكر الريحانى كيف التقى بديع لأول مرة، حيث إن نجيب كان قد اختلف مع أمين صدقى كاتبه الأثير قبل بديع، فلجأ إلى أحد أفراد الفرقة وهو فى الحقيقة لم يكن يمتلك موهبة، بل كان يستعين من الباطن بكاتب ناشئ. وهمس أحدهم فى أذن الريحانى باسم بديع خيرى وعلى الفور التقاه نجيب، وكان يصفه بأنه كان خجولا، وأذاب نجيب هذا الخجل، وكونا معا واحدا من أهم -إن لم يكن أهم- ثنائى عرفته الدراما المصرية سينمائيا ومسرحيا.
الغريب أن التسجيل التليفزيونى النادر وأظنه الوحيد لبديع خيرى مع الراحلة سلوى حجازى، سألته كيف التقى مع الريحانى، لم يأت أبدا على ذكر واقعة الكتابة من الباطن، وقال إن الريحانى سمع باسمه ككاتب موهوب يعرض على مسرح للهواة، فذهب إليه وبدأت الرحلة. وبالطبع بديع لم يشأ أن يعترف بتلك الجريمة علنا وعلى رؤوس الأشهاد.
الكتابة من الباطن لو تأملتها ستكتشف أنها وجه آخر للدعارة الفكرية. تذكرت حكاية بديع وأنا أقرأ حوارا للممثل محمود البزاوى ذكر ببساطة شديدة أنه كان يكتب من الباطن عديدا من الأعمال الفنية، ولم يشعرنى بأى إحساس بالندم، ولم يبرر حتى بأن احتياجه إلى المال دفعه إلى ذلك. كان يتردد بين الحين والآخر أن عديدا من المخرجين يلجؤون إلى البزاوى لإصلاح أعمال درامية «سينما وتليفزيون» فهو أقرب إلى «دراماتورجى» أى أسطى دراما، ولديه قدرة على اختيار المفردات العصرية والشابة والروشة، إلا أنه منذ ثلاثة أعوام رأينا اسمه لأول مرة على مسلسل «الريان» مشاركا حازم الحديدى. ولاحظت أنه لم يظهر فى أى حوار أو لقاء تليفزيونى، وترك كل الأضواء لمن شاركه الكتابة. هل هو شخصية ظلية؟ لماذا ارتضى كل هذه السنين أن يمنح فكره لآخرين؟ هل تتذكرون مسرحية «جلفدان هانم» لعلى أحمد باكثير شخصية عاطف الأشمونى التى أداها محمد عوض، ظل طوال أحداث المسرحية نادما يردد «أنا عاطف الأشمونى مؤلف قصة الجنة البائسة»، بينما البزاوى لم يذكر كم «جنة بائسة» صاغها من الباطن.
قبل أكثر من ستين عاما كان هذا هو القانون السائد فى الدراما السينمائية، مثلا الكاتب الكبير بهجت قمر والد الموهوب أيمن، كان يمارسها فى بداية مشواره، والغريب أنه ظل حتى رحيله يكتب من الباطن. كان بهجت قد صار اسما كبيرا فى دنيا الدراما ولكن بعض المخرجين من أصدقائه كانوا يلجؤون إليه لكى يصلح السيناريو خصوصا الحوا ر، وكثيرا ما كان يضيف مشاهد رئيسية ليحمل الفيلم جينات «قمرية»، بين كل ذلك حالة أظنها يتيمة فيلم «شباب امرأة» الذى كنا ونجيب محفوظ على قيد الحياة نذكر «شباب امرأة» من بين الأعمال التى شارك فى صياغتها سينمائيا مع المخرج الذى علمه كتابة السيناريو صلاح أبو سيف، ثم اكتشفنا أن «التترات» على الشاشة تخلو من اسم محفوظ، والفيلم قصة أمين يوسف غراب، الذى شارك أبو سيف فى كتابة السيناريو، بينما الحوار للسيد بدير.
وعندما سألت المخرج الكبير توفيق صالح، وهو آخر الحرافيش -أطال الله فى عمره- عن السبب، أجابنى بأنه يعتقد أن نجيب محفوظ شارك فى كتابة السيناريو، ولكنه بسبب وجود أمين غراب لم يشأ أن يضع اسمه حتى لا يثير غضبا محتملا لغراب، الذى كان يشعر وقتها فى منتصف الخمسينيات بأن مكانته الأدبية تتجاوز محفوظ.
فى كل المجالات نرى هؤلاء المتعطشين لكى يقرؤوا أسماءهم مقترنة بعمل فنى لا يمت إليهم بصلة قربى أو نسب. وتكتشف أن بعض الكبار اضطروا فى ظروف خاصة إلى أن يكتبوا من الباطن مقابل أجر. الموسيقار الكبير بليغ حمدى وهو فى سنوات الغربة نهاية الثمانينيات تنازل عن اسمه كشاعر، واكتفى فقط بأن تُنسب الأغانى إليه ملحنا. وصعد اسم منصور الشادى وهو لم يكتب شطرة شعرية واحدة، وحتى الآن لا يزالون يكتبون له ولكن هذه قصة أخرى؟!