1-
بعد أسبوع واحد من عودة الجنود السبعة المختطفين غابت سيناء عن المشهد تمامًا، فلا محللين وخبراء يتحدثون عن ضرورة حل أزماتها، ولا فضائيات تخصص ساعات من بثها لوضع سيناريوهات لتنميتها، ذلك لأن الجميع يتقوّتون بما تفرزه سيناء من أزمات، ويتاجرون بما فيها من قلاقل.
أنظمة متتابعة أدركت أن قلاقل سيناء جزء من مبررات وجودها. يقع حادث ما فيطلب النظام التفاف الجميع حوله لتجاوز المحنة ومحاربة الإرهاب، فينسى الناس الفقر والقهر والفساد وينشغلون بما يحدث هناك في شبه الجزيرة، ثم تنتهي الأزمة على أي نحو فيستغلها النظام في الترويج لنفسه باعتباره حقق نصرًا مؤزرا.
لذلك لا يجد النظام الحالي، كما النظام السابق، مبررًا لإرهاق نفسه في البحث عن حلول جذرية لمعضلة سيناء، لأن هذا الحل فضلا عن كونه مكلفاً ماديًا وسياسيًا فهو يقتل «العصفورة» التي ينشغل بها الناس بين الحين والآخر عن المطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
على الجانب الآخر هناك معارضة تنظر لسيناء باعتبارها دجاجة تبيض ذهبًا، تستغل كل حادث للتشكيك في قدرة النظام على الإدارة وعجزه عن التعامل مع المشاكل المعقدة، ومن ثم تطالب بإسقاطه واستبداله، ولذلك فإن حل مشكلة سيناء جذريًا ليس في صالح المعارضة، لأنه فضلا عن كونه نصرًا سياسيًا لا تريده للنظام، فهو أيضًا يفقدها فرصة متجددة للظهور والصراخ بين حين وآخر.
2-
شعار المعارضة: بدلا من أن تلعن الظلام العن النظام الذي تسبب فيه.
شعار النظام: بدلا من أن تلعن الظلام العن المعارضة التي تزايد به.
وبين هذا ولا ذاك لا أحد يفكر في إشعال شمعة.
3-
360 كيلو تقطعها بسيارتك منذ الخروج من نفق الشهيد أحمد حمدي في الشمال حتى تصل لأقصى جنوب سيناء، وهي مسافة كافية لتدرك عمق المأساة. سلاسل جبال لا نهائية، صحارٍ شاسعة ليس لها آخر، ملامح حياة تظهر كل 100 كيلو تقريبًا وتختفي سريعًا، تواجد رمزي للجيش وأكثر رمزية للشرطة، غياب كامل للإحساس بالأمن، والجديد سيارات نصف نقل مملوكة للأهالي تحمل أسلحة ثقيلة لم ترها طوال الطريق حتى في حوزة أجهزة الأمن النظامية.
تحدثت مع بدو فأكدوا أن سيناء بعد الثورة تسير بسرعة جنونية لتكون نسخة ثانية من الوضع في ليبيا، مساحات كبيرة تحكمها قبائل مسلحة لا سلطان للدولة عليها، عناصر تمارس كل الأنشطة الممنوعة ولا تتمكن أجهزة الأمن من الوصول إليها، ونظام عرفي قبلي يحكم كل شيء ويرى نفسه مستغنيا بشكل كامل عن قضاء الدولة وشرطتها وجيشها.
وفي ظل ثقة معدومة في الشرطة نتيجة ممارساتها مع أبناء سيناء خلال فترة حكم مبارك، ووجود محدود للجيش تفرضه اتفاقية العار مع إسرائيل، وجدت القبائل نفسها على مضمار سباق تسلح محموم، إما لرغبة بعضها في بسط السيطرة على مناطقها ومناطق غيرها أو لرغبة بعضها الآخر في امتلاك أدوات الدفاع عن النفس في مواجهة من يظن نفسه أقوى منها.
4-
الوضع كارثي لدرجة لا يمكن تصورها والحلول عدّدها أمامي بدوي متعلم ومتدين على النحو التالي:
· الوصول إلى صيغة ما تسمح للجيش بانتشار أوسع نطاقًا في سيناء لأنه يتمتع بثقة واحترام البدو، ولحين عودة الثقة في الشرطة بشكل تدريجي، وغالبا لن يحدث ذلك سريعًا.
· إسقاط الأحكام الغيابية عن أبناء سيناء وبدء صفحة جديدة مع الجميع قائمة على العدالة والإنصاف.
· إقناع القبائل بالتخلي عن سلاحها الثقيل والسماح لها بامتلاك الأسلحة الخفيفة والآلية، لأنها لم ولن تتخلى عنه تحت أي ظرف، ولأن ظروف الحياة في هذه المنطقة تفرض عليها امتلاك السلاح واستخدامه.
· وجود خطة حقيقية من شأنها تنمية سيناء وإقامة مشروعات عملاقة بها، ومن ثم توفير فرص العمل لأبنائها ودمجهم في الحياة المدنية «حتى شركات البترول العاملة في سيناء حاليًا تستقدم عمالة من خارجها ولا تستعين بأبناء سيناء».
· إزالة الصورة النمطية التي رسمها الإعلام للبدو على أن جميعهم تجار مخدرات وسلاح وخارجون على القانون.
· إقتاع القبائل بتسليم أبنائها المارقين حتى لا يسيئوا لجميع أبناء سيناء.
5-
«الجبل لكم والمدن لنا».
هذه القاعدة وضعها مدير المخابرات السابق عمر سليمان واتفق عليها مع شيوخ القبائل، بحيث يفعل البدو ما يحلو لهم داخل الجبال، لكن إذا نزلوا إلى مدن سيناء، وتحديدا شرم الشيخ، وحاولوا أن يفعلوا بها ما يفعلونه في الجبل، فلا حماية لهم.
تسببت هذه القاعدة في هدوء نسبي بسيناء في فترة ما قبل الثورة، رغم بعض الأحداث الاستثنائية في طابا وشرم الشيخ، لكنها سمحت في الوقت نفسه للقبائل بأن تنمو وتتسلح وتتزايد ثرواتها، وبمجرد أن ضعفت الدولة بعد الثورة انهارت هذه القاعدة ومارس بعض البدو نشاطهم داخل شرم الشيخ نفسها دون أن تتمكن الأجهزة الأمنية من التصدي لهم، ويمكنك أن تسمع من العاملين في السياحة وكذلك من البدو أنفسهم حكايات وأحداثا لم يتم تداولها في الإعلام عن سيارات محملة بالأسلحة تمر من الأكمنة دون اعتراض، وسيارة شرطة تم اختطافها بمن فيها من جنود لحين الإفراج عن سيارة محملة بالمخدرات ودون أن تنقص جرامًا واحدًا.
الآن صارت المدن والجبل سواء، حتى العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش بين الحين والآخر لا يتم التوسع فيها ولا استهداف كل بؤر الإرهاب والإجرام الموجودة بها لأن الجيش يعلم أن تواجده بهذا العدد وهذا العتاد مؤقت وبالاتفاق مع إسرائيل، وأنه سيعود إلى قواعده بعد عدة أيام تاركاً أبناءه في سيناء صيدًا سهلًا للعصابات.
6-
«الجيش والشرطة قاعدين هنا أصلًا بالحب وبرضا البدو».. قالها بدوي بأسى وهو يتحدث عن عجز الأجهزة الأمنية عن ضبط الأمور في سيناء، مرجعًا ذلك إلى تمتع المنطقة بطبيعة خاصة تجعل البدو أدرى الناس بمدقاتها وشعابها ومخارجها فضلا عن الأعراف القبلية التي تحكم الجميع، ولذلك لا يمكن للأجهزة الأمنية أن تنجز مهمة دون تعاون البدو، وهذا الوضع يحتم أن تبقى العلاقة بين الطرفين دائما قائمة على الندية، وهو وضع لا يُرضي غرور الدولة في الخفاء وإن أظهرت الرضا في العلن.
أي حديث عن إنهاء الوضع المأساوي في سيناء يبدأ بإلغاء أو تعديل اتفاقية السلام لتسمح بتواجد قوي للدولة في هذه البقعة، ثم فتح حوار وطني جاد مع البدو يتم التوصل فيه إلى حلول وسط ترضي القبائل والدولة معًا وتزيل الشكوك الموجودة عند الطرفين، وللعلم فالغالبية العظمى من القبائل لا تريد للوضع الحالي أن يستمر وترغب فعلا في الاندماج في النسيج المصري، لكن على الدولة أن تتخذ الخطوة الأولى، وعلى الجميع أن يتخلى عن حساباته وينسى مكاسبه ولو مؤقتًا من أجل هدف وطني اسمه «تحرير سيناء».