هكذا هم الطغاة دوما.. يجدون أنفسهم فجأة بداخل لحظة تاريخية ينفتح أمامهم فيها باب التاريخ.. يمرقون منه فى لهو وفرحة طفولية عابثة ليجدوا أمامهم بعدها طريقين عليهما أن يختارا أحدهما لإجتيازه.. أحدهما مغطى بالأشواك وغير ممهد وفى نهايته باب متواضع مكتوب عليه «العظماء الذين أحبتهم شعوبهم».. والآخر ممهد ومفروش بالورود والنوايا الحسنة ورجال الحراسات الخاصة والأتباع والدلاديل والألاضيش وفى نهايته باب فخم مكتوب عليه " الطغاة الذين كرهتهم شعوبهم ".. بدون تفكير ينطلق الطاغية من دول عبر الطريق الممهد والمفروش بالورود والنوايا الحسنة ليصل إلى الباب الفخم الخاص بالطغاة.. وبعد أن يمرق منه وتستقبله هيئة الشياطين الدستورية العليا المسؤولة عن تظبيط الطغاة فى الحديقة الخلفية للتاريخ يود الطاغية من دول أن يعود به الزمن ليختار الطريق الأول والباب الآخر - خاصة بعد أن يستمع عبر السور الفاصل بينه وبين حديقة التاريخ الخاصة بالعظماء الذين أحبتهم شعوبهم إلى أصوات الكثير من حور العين وهن يتدللن إلى هؤلاء العظماء الذين استوعبوا حكمة "غسان مطر" وعملوا الصح.. فاتعمل معاهم الصح – إلا أنه على رأى الست.. " عايزنا نرجع زى زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان.. وهاتلى قلب لا داب ولا حب.. ولا انجرح ولا شاف طغيان "..
هكذا هم الطغاة دوما.. يظنون من غفلتهم أنهم يستطيعون تعميم الشعب وبيع "الحكم الإستبدادى الكندوز" له على أنه "حكم ديمواقراطى بتلو".. وينسون أن هذا الشعب العجائبى لم يحكمه طوال تاريخه الطويل والقديم والعريق وحتى الآن سوى حكام طغاة.. طغاة أجانب وطغاة محليون.. طغاة أذكياء وطغاة سذج.. طغاة عملاء وطغاة وطنيون.. طغاة صنعوا الحضارة وطغاة هدموا الحضارة.. إلا أن هذا الشعب الغريب والعجيب والحزين والرومانسى والكوميدى والتراجيدى والدرامى خلاص اتخنق.. ولم يعد راغبا فى أن يحكمه بعد الآن طغاة من أساسه.. تلك هى الحكمة التى لا يستطيع الطاغية من دول إستيعابها.. تلك هى الغفلة التى يفيق منها الطغاة دوما متأخرين.. بعد فوات الأوان..
هكذا هم الطغاة دوما.. يظنون أنهم يخدعون الشعب بطغيانهم بينما هم فى حقيقة الأمر لا يخدعون أحد سوى أنفسهم.. يملص الطاغية منهم من باب قصره الخلفى محاطا بسياراته وحراساته هربا من زئير الجماهير المحيطة بقصره ظنا منه أنه قد اصبح الآن فى أمان.. إلا أن ذلك الهدير الصوتى سوف يقض مضجعه حارما إياه من ذلك النوم الهانىء الذى كان يظن أن الطغاه ينامونه.. وحتى إذا حدث ونام لن تتركه تلك الحشود فى حاله وسوف تزوره فى كوابيس مفزعة مُدلدِقة من أمامه على الأرض كل أطباق الرز بلبن التى كان قد اعتاد تناولها مع الملائكة أثناء النوم فى أيامه السابقة عندما كان لا يزال مواطنا عاديا وقبل أن يتحول إلى طاغية رسمى.. ولأن للسماء إعلانها الدستورى الخاص والمقدس والأزلى لذلك فإنه ليس هناك حل لتلك الكوابيس حيث انها محصنة بشكل ربانى من أى حراسة بشرية قد يفرضها الطاغية من دول حول سريره لمنع وصول تلك الكوابيس السيئة إليه.. وهو ما يعزز إصابة الطغاة بالأرق..
هكذا هم الطغاة دوما.. تظل حاشيتهم المستفيدة من طغيانهم تزين لهم اعمالهم.. فينجرف الطاغية من دول.. وتبدأ عجلة القيادة تهتز فى يده إثر ثمالته بالغرور.. وعندما تصل نسبة الغرور فى دمه حدها الأقصى.. ينتشى قليلا قبل أن يخيش فى أول شجرة.. وعندها يجد نفسه فى مواجهة الكائن الوحيد الذى لا يستطيع الكذب عليه.. يجد نفسه فى مواجهة نفسه..
هكذا هم الطغاة دوما.. مجرد وجوه مختلفة ورداء طغيان واحد يتناوبون جميعا إرتداؤه كما هى الحال فى رائعة سعد الله ونوس "الملك هو الملك".. حيث الوجوه لا تهم فى كثير أو فى قليل.. والذى يهم حقا من هو الملك الجديد الآن.. الملك الذى سوف يرى مثل سابقه أنه " لن يحمى هذا العرش إلا الحديد ".. الملك الذى سوف يتكلم مثل الملك القديم لدرجة أن الملك القديم نفسه سوف يتسائل.. " من أنا ؟!.. بل من هو ؟! ".. الملك الجديد الذى سوف يقرر ميثاق شرفه الجديد وسط حاشيته وألاضيشه الذين لم يختلفوا كثيرا عن ألاضيش الملك السابق.. ذلك الميثاق الذى ينص على أنه.. " سأريق الدم.. فلا شىء يطهر الملوك مثل الدم " !