إذا كان الإسلاميون والليبراليون واليساريون فشلوا فى التصالح مع تاريخ أمتهم فكيف سيتصالحون فيما بينهم فى الحاضر والمستقبل.. فمعظم الليبراليين واليساريين يتنكرون لحسنات عظيمة فى تاريخ الأمويين والعباسيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، ولا يرون فى هذا التاريخ كله سوى النقائص والسلبيات دون أن يتدبروا أبدا الإيجابيات الكبيرة والقيم الحضارية التى كانت فى هذه العصور رغم كثرة الهنات والعيوب.. ولم يدركوا أن أقل دولة من هذه الدول كانت تحكم نصف أو ربع الكرة الأرضية، وتعمل لها بقية الكرة الأرضية ألف حساب، وتذود عن رعاياها فى كل مكان وتدافع عنهم أعظم دفاع وكأن جواز سفرها أقوى جواز فى العالم.
أما معظم الإسلاميين فلا يعتبرون حتى الآن أن محمد على باشا أو إسماعيل باشا أو عبدالناصر والسادات ومحمد نجيب لهم حسنات تذكر.. فضلا عن الشيوخ الكرام أمثال محمد عبده والكواكبى والطهطاوى.. ويعتبرون هؤلاء جميعا لا يمثلون الإسلام وليس لهم حسنات تذكر وليس لهم سوى السيئات والسلبيات.. وكأن الأمة فى العصر الحديث لا خير فيها ولا بر ولا حسنات.. غافلين عن تقييم الناس بمجمل حسناتهم وسيئاتهم.. وخيرهم وشرهم.. وإيجابياتهم وسلبياتهم.
فكيف يتوقع أحد التصالح بين الفريقين وقد ألغى كل فريق الآخر من التاريخ، ويريد إلغاءه من الجغرافيا والحاضر والمستقبل.
الخلاصة أننا جميعا نعشق الإقصاء، وكل حياتنا مجموعات متشابكة ومتواصلة من الإقصاء المتبادل.
إننا نعشق الإقصاء حتى لو لم تكن لنا فيه مصلحة.. وكأن له سحرا فى القلوب.
إنها مصر الفرعونية التى كان كل فرعون فيها يطمس أسماء الفرعون الذى سبقه من على المسلات ليكتب اسمه مكانه.. ثم يأتى الذى يليه ليكرر المأساة نفسها.. وهكذا فى كل مرة.
لقد جاء عبدالناصر فألغى كل شىء عن تاريخ فاروق والملكية بأسرها.. بل محا ذكر سعد زغلول تماما وثورة 1919م، وحرّم على الجميع ذكر النحاس باشا فى أى محفل.. ومنع الاحتفال بثورة 1919.. ثم محا اسم محمد نجيب كأول رئيس لجمهورية مصر.. وكأن تاريخ مصر لم يبدأ إلا به ومعه.. وكأن الإنجازات لم تعرفها مصر إلا به ومعه.
ثم جاء السادات فأراد أن يمحو كل حسنات ناصر ويذكر سلبياته فقط.. وكأن مصر لم تنهض وتنتصر إلا معه فقط.. ثم جاء مبارك فألغى دور كل قادة الجيش فى حرب أكتوبر مكتفيا بالضربة الجوية التى قادها.. ناسيا أن ضربات الطيران هى إسناد نيرانى لقوات المشاة.. فنسى وأراد للناس أن تنسى الجمسى والشاذلى وعبدالمنعم خليل وواصل وأحمد إسماعيل وواصف ومحمد على فهمى وغيرهم.
ثم عصفت الثورة بمبارك فشطبت اسمه من كل شىء أيضا.. وكأنه لم يشترك فى الحرب مطلقا.. فإما أن يكون كل شىء فى الحرب أو لا يكون مطلقا.. إما أنه بانى نهضة مصر أو لا يكون مطلقا.. لقد أراد مبارك أن يقصى الإسلاميين والدنيا كلها وهو الآن يقصى من كل شىء.
فمتى نتعلم أن لكل إنسان أو حاكم حسنات وسيئات وإيجابيات وسلبيات؟
متى ندرس ونعلّم أبناءنا تاريخنا وتاريخ حكامنا بتجرد ودون إفراط أو تفريط.. أو تحيز مخل أو تطرف مضل.. ودون تقديس أو تبخيس؟
متى سننتهى من إقصاء بعضنا البعض من التاريخ والجغرافيا والسياسة والثقافة والحاضر والمستقبل والعسكرية؟