عنوان مثير يجمع بين الثقافة والوطن والمستقبل. ثلاثة عناصر تكوّن هموم الوجدان العربى المعاصر. الثقافة هى الهم الأول. فلا نهضة ولا تقدم دون الاستناد إلى الثقافة. وهى ثقافة وطنية أى ثقافة الشعب التى تحرك الجماهير وتؤثر فى العامة، فى مقابل ثقافة النخبة الحاملة للأيديولوجيات السياسية الغربية. وهو تقرير كتبه طه حسين بعد حضوره مؤتمرا فى سويسرا عن مستقبل الثقافة. وكانت العادة وقتئذ أن يكتب الأستاذ تقريرا عن كل مؤتمر يحضره حتى تستفيد الجامعة بالخبرات الدولية ما دامت هى التى ساهمت فى الإنفاق على حضور هذا المؤتمر. وهو تقليد اختفى إما لعدم الاهتمام بالموضوع أو لعدم اهتمام الجامعة به. فلم يعد حضور أستاذ مؤتمرا دوليا حدثا ذا بال. وأهم ما فيه هو المقدمة التى تبين موقف الكاتب من الثقافة المصرية والحديث عن المصرية أكثر من الحديث عن العربية أو الإسلامية.
وتكشف المقدمة عن ضرورة تبنى النموذج الغربى فى الثقافة. فقد ارتبطت الثقافة العربية بالثقافة اليونانية منذ نشأتها، عن طريق الترجمة وتبنى النماذج اليونانية الأفلاطونية أو الأرسطية أو كليهما، كما عبر عن ذلك الفارابى فى «التوفيق بين رأيى الحكيمين، أفلاطون الإلهى وأرسططاليس الحكيم». وقد أتت الثقافة اليونانية الرومانية من الشمال، من أثينا إلى الإسكندرية وكذلك تأتى الثقافة الغربية من الشمال من فرنسا خاصة إلى الوطن العربى خاصة شمال أفريقيا والشام. وقد كانت البعثات التعليمية الأولى إلى فرنسا منذ الطهطاوى وقبله الشيخ حسن العطار. والحقيفة أن عام 1936 هو عام المعاهدة المصرية البريطانية التى فى رأى البعض تعطى الاستقلال، وفى رأى البعض الآخر تؤكده. وكان من ضمن برنامج الحركة الوطنية إلغاء معاهدة 1936. وكان من شروطها جعل مصر قطعة من أوروبا، والربط بينهما علميا وثقافيا كمقدمة للربط بينهما سياسيا وعسكريا.
أما الشرق فلا صلة لمصر به. وكل الشام توجهه نحو الغرب، فرنسا. لا تربط مصر أى رابطة لغوية أو ثقافية أو علمية بالشرق، عالم الحلم والسحر والخيال. مع أن أى تقدير لأى شىء يقترن بالشرق مثل كوكب الشرق، صحيفة الشرق، مطعم الشرق، مكتبة الشرق، نادى الشرق. وكان الشرق السياسى لم يبدأ بعد، سواء فى صورة الحياد الإيجابى أو العالم الثالث أو القارات الثلاث بعد أن دخلت أمريكا اللاتينية وأفريقيا فى النموذج الشرقى. وأخيرا ظهر «ريح الشرق» كموجة حضارية جديدة تقوم على انتقال الحضارة من الغرب إلى الشرق كما انتقلت فى البداية من الشرق إلى الغرب. وفى كلتا الحالتين العالم العربى هو الممر.
وفى المرحلة قبل الأخيرة أصبح الشرق مصدر توريد السلاح فى مواجهة الغرب وإسرائيل، كما أن أمريكا هى مورد السلاح لإسرائيل. وكان الشرق ممثلا فى الاتحاد السوفيتى هو عامل التنمية بخبرائه وتخطيطه. وكان آخر حضور له فى حرب أكتوبر 1973. وكان ذلك موازاة لمساندة حركات التحرر فى الشرق وأمريكا اللاتينية. الغرب يعادل الاستعمار، والشرق المناهض للاستعمار، وشعوب العالم الثالث مع الشرق ضد الغرب.
وبعد تفكك الاتحاد السوفيتى وسقوط زعامته الأيديولوجية والمادية انهار النظام على أسوار النظام الإنسانى، وفى مقدمته الحريات العامة. فإذا كانت العدالة قد تحققت نسبيا فإن الحرية لم تتحقق. وهل يوازى بناء السدود بناء الإنسان؟ وانهار النظام الاشتراكى ابتداء من أوروبا الشرقية حتى الاتحاد السوفيتى نفسه. ولم يعد قائما إلا فى الصين وكوريا الشمالية وفيتنام وكوبا وفنزويلا. والعدد فى تناقص ولو بدرجة أقل.
ثم فى هذه المرحلة تغير النظام. وتحول النظام الاشتراكى فى الاتحاد السوفيتى إلى نظام مشابه للنظام الأمريكى. يبحث عن مصالحه بل يعادى ثورات الشعوب، كما هو الحال فى موقفه من الثورة السورية بعد نجاح ثورات الربيع العربى فى تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، والبحرين والأردن فى الطريق. أصبح الاتحاد السوفيتى نظاما يساند نظاما، النظام الرسمى السورى، بصرف النظر عن ثورة الشعب السورى. وانضمت الصين إلى الاتحاد السوفيتى فى تأييدها للنظام السورى ضد ثورة الشعب السورى.
ولقد تعلم العرب أنه لا وجود لصديق دائم. ولا يوثق بأحد فى مطالبه الوطنية. ولا يعتمد إلا على الذات ولا حتى أقرب الأقرباء، جامعة الدول العربية، أو الثورات العربية لنصرة الشعب السورى. ولا فرق بين روسيا وأمريكا والغرب فى التخلى عن الثورة السورية. وسوريا قلب الشام. والنظام السياسى منذ حوالى أربعين عاما توريث من الأب إلى الابن. وما زال يجد من يناصره بعد تدمير الشعب، ومئات الألوف من القتلى والجرحى والمعتقلين.
إن الدول العربية مترامية الأطراف أكبر من أن يكون هناك نموذج لها أو يحتويها، فهى قادرة على خلق نموذجها الخاص. وإذا كان التعدد اللغوى والعرقى والطائفى يؤخذ بعين الاعتبار فإن النظام الفيدرالى خير نظام سياسى قادر على احتواء هذا التنوع البشرى؛ فهو النظام القادر على الحفاظ على الوحدة والاختلاف فى الوقت نفسه. فالاتحاد الأوروبى كوّن نظامه السياسى على الأرض، وعديد من الدول متعددة الأعراق اختارت النظام الفيدرالى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا، روسيا. وهذا النظام هو الحل الأمثل لمشاكل العراق والمغرب العربى والسودان والخليج وجنوب شبه الجزيرة العربية. وبالتالى يصبح العرب مثل باقى الدول متنوعة الأعراق والطوائف يحافظون على عروبتهم، فكل من تكلم العربية فهو عربى، ويتمسكون بخصوصيتهم وموقعهم فى الزمان والمكان.
إن مستقبل الثقافة فى مصر ليس النموذج الغربى بل نقد الغرب وتأسيس علم «الاستغراب»، كما أسس الغرب علم «الاستشراق» حتى يستيقظ الأنا الشرقى. ويتحول من موضوع للدراسة إلى ذات دارس. ويصبح كل منهم دارسا ومدروسا. وفى هذه الحالة ينجح الحوار بين طرفين متكافئين وليس بين طرف يرى وطرف مرئى. كل منهما نموذج نفسه فتتعدد النماذج وتنتهى أحادية النموذج. وينتهى التقليد الذى هو آفة من آفات العلم.