حينما كنت أحث الخطى ناحية الالتزام والتدين، فى فترة ما قبل الشباب، كنت أتوجه دائما صوب مسجد الخلفاء الراشدين بمصر الجديدة حيث أتنسم كلمات مؤثرة فياضة بالمشاعر من الدكتور سليمان ربيع الذى كان عميدا لكلية اللغة العربية آنذاك، وكانت مشاعرنا تصل إلى القمة ونحن نستمع لدروس الشيخ عبد اللطيف المشتهرى، فنخرج إلى الطريق والأرض لا تكاد تحملنا من فرط نشوتنا الروحية، كانت دروس الدكتور سليمان ربيع بمثابة صياغة فكرية لما ينبغى أن يكون عليه المسلم قولا وعملا، وكانت أمتع دروسه تلك التى كان يلقيها علينا قبل صلاة الجمعة، حيث كنا نذهب إلى المسجد فى العاشرة صباحا لنستمع إليه وهو يقودنا إلى متع فكرية وروحية لا مثيل لها، وأحيانا كان يستضيف العالم الكبير الدكتور عبد الجليل شلبى فى درس الثلاثاء فنسمع من هذا الأخير دروسا تخاطب العقل وتحث على التفكير.
أما الدرس الذى ترك أثرا فى نفسى وعقلى فهو الدرس الذى ألقاه الدكتور سليمان ربيع ذات يوم تحت عنوان «سلوك المسلم بين القول والفعل»، يومها قال نقلا عن أبى اليزيد البسطامى: «إذا رأيتم الرجل يطير فى الهواء ويسير على الماء فلا تشهدوا له حتى تنظروا إلى عمله»، كان هذا الدرس من الدروس التى تحرك العقول وتضبط الأفئدة، فمعظمنا يغتر بالظاهر الذى يراه وبالقول الذى يسلب لبه، يتحرك كثيرٌ من أصحاب المشاعر المفعمة بالتدين مع حركة الشيخ الذى يقودهم، فهو مثل الساحر الهندى الذى يعزف على الناى فيجمع الناس حوله، وما إن يجتمع الناس حتى يضع سلة الأفاعى على الأرض، ثم يضرب رأس الأفعى النائمة كى يوقظها، فيكون العمل الأول للساحر هنا هو رأس الأفعى التى تنتبه وتتأهب فيمسك الساحر بالناى ويأخذ بالعزف عليه، وحينما يعزف يتراقص بجسده يمينا ويسارا، فتتحرك الأفعى مع حركته، فيظن الناس أنها ترقص طربا فى حين أنها صمَّاء من الأصل لا تعرف الناى ولا تسمع لحنه ولكنها تتابع بجسدها حركة الساحر.
ليس كل القول سلوكا، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى نبهنا إلى هذا الأمر وحث عقولنا على التفكير حين قال «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون»، وقال أيضا «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون»، طلب الله منا أن نعمل العقل وألا ننذهل من بلاغة المتكلمين وفصاحة الخطباء فنتبعهم دون أن نرى أفعالهم.
ولكن جيلا وأجيالا لم تعمل عقلها ـ وأنا منهم ـ أخذتنا حلاوة الحديث وجميل المنطق فسرنا وراء الأقوال، وأخذنا نبحث عن تبريرات للأفعال، فحين قال الإخوان لنا «نحب مع هذا أن يعلم قومنا – وكل المسلمين قومنا – أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة بريئة نزيهة، قد تسامت فى نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية» صدقنا هذا القول، ونسينا أن تاريخ الجماعة من خلال ما كتبوه أنفسهم حافل بالمطامع الشخصية، اتفاق مع الملك فؤاد الذى كان الشعب يمقته، اتفاق مع إسماعيل صدقى عدو الشعب حتى إن خطباء الإخوان شبهوه بسيدنا إسماعيل، اتفاق مع الملك فاروق واستخدام كل أساليب النفاق معه، بداية يضع الإخوان فيها أيديهم مع الاحتلال الإنجليزى من خلال قبول تبرعات منهم لإنشاء مقر للإخوان بالإسماعيلية، وهلم جرا مما يصعب حصره فى هذا المقال.
وحين قال الإخوان «نحب أن يعلم قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداء لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب، ولن نكون عليكم فى يوم من الأيام» صدقناهم والتمسنا لهم الأعذار والتبريرات، ولم نتوقف عند أفعالهم حينما اغتالوا المستشار الخازندار، فكانوا عليه لا له، ولم نتألم عند قتلهم أحمد ماهر، رئيس وزراء مصر، ومن بعده رئيس الوزراء النقراشى، ولم نفكر آنذاك فى أنهم نقضوا قولهم فكانوا علينا لا لنا، وكذلك غفلنا عن فعلهم عند محاولة تفجير محكمة مصر، وعند الاعتداء على طلبة الجامعة المصرية بالجنازير أثناء زيارة إسماعيل صدقى للجامعة، وعند قتلهم سيد فايز مسؤول النظام الخاص بالقاهرة وابنته الطفلة الصغيرة، وعند محاولتهم قتل جمال عبدالناصر فى المنشية، وشاهدنا فى أيامنا الفائتة جحافلهم العمياء وهى تحارب بنى وطنهم عند قصر الاتحادية فتقتل وتصيب وتتجبر وتتكبر، وشاهدناهم يفتحون أبواب الدماء فى محافظات مصر كلها فى العام الأخير فكانوا علينا لا لنا.
كنا نبحث لهم عن تبريرات فقلنا إن البنا تبرأ من القتلة، وهو وفقا لتاريخهم لم يكتب تبرأه إلا تحت ضغوط حكومية، وهو أيضا وفقا للإسلام، الذى نعرفه مسؤول عن دماء القتلى تطبيقا للحديث الشريف كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، ولكننا كنا ننظر لهم وللإسلام بعين عوراء لا ترى كل الحقيقة، ولا تنظر إلا لنصفها المريح فقط، واعتبرنا أن من تم قتلهم مثل أحمد ماهر والخازندار والنقراشى كانوا خونة ومتحاملين على الإخوان ـ وفقا لما قاله مأمون الهضيبى فى مناظرة معرض الكتاب عام 1992 ـ مع أن الإخوان أنفسهم قالوا عن أصناف الناس وطريقة تعاملهم معهم إن من بينهم «المتحامل وهو الذى أساء فينا ظنه، فهو لا يرانا إلا بالمنظار الأسود القاتم، ولا يتحدث عنا إلا بلسان المتحرج المتشكك، ويأبى إلا أن يلج فى غروره ويسدر فى شكوكه، فهذا ندعو الله لنا وله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يلهمنا وإياه الرشد، وهذا سنظل نحبه ونرجو فيئه إلينا واقتناعه بدعوتنا» هذا قولهم، سيحبونه ويرجون فيئه، فماذا كان فعلهم مع من رأوا أنهم تحاملوا عليهم، كل من اختلفوا معهم لم يدعوا لهم ولم يحبوهم، ولكن دعوا عليهم وكرهوهم وتعقبوهم وقتلوا بعضهم وسلطوا عليهم لجانهم الإلكترونية، وخونوهم وكفروهم وأخرجوهم من الملة.
أيها الأخ الإخوانى هذا هو فعلكم فلا تحدثنى عن قولكم، لا تحدثنى عن الإسلام ولكن اجعلنى أراه فيك.