«من يتخل عن الحرية طمعًا فى الأمن المؤقت لا يستحق الحرية ولا الأمن». تلك الكلمات ليست من عندى وإنما هى كلمات بينجامين فرانكلين، أحد زعماء أمريكا الأوائل. ترى ماذا كان فرانكلين سيقول لو أنه كان على قيد الحياة خلال الأسابيع الماضية؟
فالبداية كانت الشهر الماضى حين تبين أن وزارة العدل فى إدارة أوباما حصلت سرا على السجلات التفصيلية لهواتف عدد من الصحفيين العاملين بالأسوشيتد برس دون علمهم المسبق ولا علم الوكالة. والسجلات تتعلق بكل الهواتف التى يستعملها أولئك الصحفيون، الأرضية والنقالة، الخاصة منها مثل هواتف المنازل، والعامة التى تخص الوكالة، وفى ثلاث مدن. أما الهدف فكان التوصل لمصادر أولئك الصحفيين التى سربت لهم وثائق أحرجت الإدارة. وتلك فضيحة من العيار الثقيل لأنها لا تتعلق فقط بحرية الصحافة، وإنما بملاحقة أصحاب الضمائر الحية فى المؤسسات الحكومية الذين يكشفون التجاوزات داخلها عبر تسريبها للصحافة. والحقيقة أن إدارة أوباما تعتبر من أسوأ الإدارات على الإطلاق فى ملاحقة هؤلاء. فهى باختصار تلاحق الصحفيين ومصادرهم، بدعوى «حماية الأمن القومى».
لكن ما هى إلا أسابيع قليلة، حتى نشرت الجارديان البريطانية مضمون وثيقة سرية تكشف عن أن هيئة الأمن القومى الأمريكية، تجمع بيانات هواتف ملايين الأمريكيين الأرضية أو النقالة التابعة لشركة فيرايزون للاتصالات. والوثيقة عبارة عن حكم قضائى، لمحكمة خاصة سرية، يأمر فيرايزون بإعطاء هيئة الأمن القومى بانتظام ولمدة ثلاثة أشهر نسخة كاملة من سجلات اتصالات عملائها التى تتم «داخل الولايات المتحدة أو بينها وبين الخارج»، وتحتوى على «كل التفاصيل» المتعلقة بالهاتف «الطالب والمطلوب، ومدة كل مكالمة وتوقيتها ومكان الطرفين وقت إجرائها». والتجسس على اتصالات الأمريكيين الخارجية معروف منذ أن افتضح أمره فى عهد بوش. إلا أن الجديد الذى كشفت عنه الجارديان هو استمرار تلك الممارسات فى عهد أوباما. وما هى إلا ساعات حتى كشفت السيناتور الديمقراطية ديان فاينستين زعيمة لجنة الاستخبارات أن حكم المحكمة المذكور ليس إلا «تجديدا» للممارسات التى «ظلت مستمرة خلال السنوات السبع الأخيرة بعلم الكونجرس»!، والتى أجبرت عليها جميع شركات الاتصالات الأمريكية. بعبارة أخرى، تتجسس الحكومة الأمريكية على ملايين الأبرياء من الأمريكيين بل والأجانب الذين يتصلون بأى شخص داخل أمريكا.
فالكل متهم حتى يثبت العكس! وكأن ذلك كله ليس كافيا، ففى اليوم التالى مباشرة، تأكد أن إدارة أوباما لا تزال تحصل بانتظام أيضا، كما فى عهد بوش، على السجلات الكاملة للشركات الإلكترونية العملاقة بدءا من جوجل التى تملك يوتيوب، ومايكروسوفت التى تملك برنامج سكايب، فضلا عن فيس بوك وياهو وغيرهما. بل الأسوأ هو أن الإدارة تعاقدت مع بعض تلك الشركات لإنتاج تقنيات جديدة تيسر للحكومة الحصول على تلك المعلومات مباشرة من المنبع. ثم لم تمض ساعات حتى فجرت الواشنطن بوست فضيحة أخرى، بحصولها على نسخة من أمر رئاسى سرى أصدره أوباما لكل أجهزة الأمن القومى والاستخبارات يطلب منها تطوير قدرات الولايات المتحدة على «شن حروب إلكترونية مدمرة» دون سابق إنذار إذا لزم الأمر.
أكثر ما يلفت انتباهك فى الأمر برمته أن كل هذا العدوان على الحريات العامة فى بلد الحريات، والإهدار الكامل لمبدأ الشفافية، يحدث دون ضجة كبرى هناك. فالكونجرس يساند الإدارة والجمهوريون يساندون أوباما، فيما يقتصر القلق والغضب على الأوساط المعنية بالحريات، أما استطلاعات الرأى فتقول إن الأغلبية لا تمانع التخلى عن بعض الحريات مقابل الحصول على الأمن! خطورة ذلك كله ليست فى فقدان أمريكا المصداقية وإنما فى تحوله لشيك على بياض للدكتاتوريات حول العالم فتقلد دون خجل ما يحدث فى «بلد الحريات»!