حين قتل فرج فودة فى ٨ يونيو ١٩٩٢ لم أكن أكملت العشرين من عمرى، كان هذا أيضا بعد أقل من سبعة أشهر على خروجى من اعتقال دام شهرين. واستقبلت الخبر باعتباره انتصارا للإسلام. وباعتباره دليلا على أننا قادرون على إسكات من ينتقدنا حتى ونحن فى أشد مراحل ضعفنا.
الآن أكتب إلى فرج فودة، لكى أقول له إننى لا أعتذر عن هذه الفرحة. لماذا؟ لأنها لم تغير من الواقع شيئا. فرحتى أو عدم فرحتى لم تكن لتغير من المصير أو تزحزحه. كنتُ مجرد إنسان تافه، يفكر له آخرون، ويحددون له الصواب والخطأ، ويتكبر على «الضعفاء»، ويفرح بمقتل إنسان أعزل لم يكن له من سلاح إلا مقال أو محاضرة. والتافهون ليس لأحزانهم وأفراحهم إلا أثر ضئيل بقدر تفاهتهم.
ثم إن تلك الفرحة بمقتلك كانت فى الحقيقة تعبيرا عن حنقى منك، لأننى قرأت قبلها مناظرتك مع أحد الإسلامجية «الوسطيين»، أعتقد أنه كان المدعو محمد عمارة، ولأننى أحسست وقتها -حتى وأنا إسلامجى- بقوة حجتك. والتى اعتبرتها دليلا آخر على أن الشيطان يساعدك لإغواء الناس. ابتسم يا صديقى، فعقل الجاهل يجتهد فى اتجاه واحد فقط - العثور على مبررات لجهله وضعف حجته. أود أن أذكر هنا بأنك لم تكن الوحيد، فلقد قتلوا أيضا نجيب محفوظ، نعم نجيب محفوظ، لكنه لم يمت. إن عملاء الشر ينتقون من يستهدفونهم.
أما السبب الأهم لعدم اعتذارى، فهو أن مشيئتك التى سادت. ألم تكن تكتب ما تكتب على أمل أن يقرأ أناس كلامك فيفكرون فيه. لقد حدث ذلك. لقد فكرت فى ما كنت تقول، وأسهم ذلك فى تحويل شخص فرح بمقتلك، إلى شخص يرى فيك نموذجا للإنسان الحر الشجاع. الإنسان الذى وقف وحده دون سند من نظام سياسى يدافع عنه، ولا مجتمع يحتفى به وهو حى، وقف وحده -يا لشجاعتك- أمام قتلة جهلة، يتقربون إلى ربهم بإسالة دماء أناس لا يملكون فى أيديهم سلاحا. حتى النبل الإنسانى العادى، حتى أخلاق الفروسية الإنسانية العادية، تأنف على نفسها أن تفعل ذلك. لكن هؤلاء يقولون إن دينهم يبيح ذلك.
لماذا أصر على ترديد هذه الجملة «إننى كنت فرحا بمقتلك؟»، لأننى لو لم أقل لك ذلك لانتقصت من قوة تأثير كلماتك. أن تؤثر كلماتك وأفكارك فى شخص لم يكن مباليا، فهذا إنجاز، إنما أن تؤثر فى عدوك، فهذا أكثر من إنجاز. هذا ما فعلته أنت يا فرج فودة. أطمئنك. لستُ وحدى. أنت أكثر كاتب مصرى سمعت اسمه على لسان شباب حاليين يتذكرون من أثر فى تفكيرهم وعلمهم التفكير المنطقى.
مرحلة التحول من الأمية إلى الكتابية مرحلة خطيرة فى كل أمة، وكان حظك أنك أتيت فى هذه المرحلة. حيث من يجيدون الكتابة لا يجيدون التفكير بعد، بل ينقشون معارفهم الأمية الموروثة فى كتب. وحيث محدثو التعلم، حديثو العهد بالجهل، يرون فى هذه الكتب التى تحوى معارف الأميين المضحكة قمة العظمة، لماذا؟ لأنها أقرب إلى معارفهم الأمية وأكثر صلة بها. فى هذه المرحلة جئت أنت. فكنت غريبا عجيبا، كائن من سنة ١٩٩٢ يعيش وسط كائنات فى عام ٧٠٠ ميلادية. لقد فعلوا معك نفس ما تفعله القبائل البدائية حين ترى شخصا مختلفا. يعتقدون أن الشيطان تلبسه ويقتلونه. هذه هى الحكاية بلا تزويق.
هذه أول ذكرى لاغتيالك، بينما أعداء التفكير فى السلطة رسميا، ويؤسفنى أن أخبرك أن رئيسهم أفرج عن قاتلك بعفو رئاسى. أخبرك لأننى أعلم أنك لن تغضب، وأنك لو كنت هنا لقلت لنا ليس هذا جديدا. بل إنه يثبت أنهم جميعا وجوه لنفس العقلية الخربة، لا فرق بين متطرف ومدعى انفتاح. الخبر الجيد أن من يواجهونهم الآن، وهم فى السلطة، أكثر. ومن أعادوا النظر فى كلامك وفهموه أكثر. ومن يتذكرونك أكثر. فابتسم وسنبتسم. ابتسم لأنهم لن يفهموا أبدا من أين تأتى شجاعة إنسان لا ينتظر مكافأة على ما يفعل. الحيوانات المروضة تعودت أن تنفذ ما تؤمر، من أجل قطعة سكر. أما البشر فقد ارتقوا عن هذا. ابتسم.