الأحداث التى شهدتها تركيا مؤخرا لها دلالات كثيرة، ليس من بينها «نظريات» إسقاط تجربة حزب العدالة والتنمية، الناجحة فى مجملها، على تجربة الإخوان الفاشلة فى حكم البلاد.
والحقيقة أن الاحتجاج كوسيلة لتغيير الحكومة فى البلاد الديمقراطية أمر يختلف عن الاحتجاج كوسيلة لإسقاط النظام فى البلاد غير الديمقراطية، والمؤكد أن تركيا تعيش فى ظل نظام ديمقراطى يعانى من بعض القيود أو فى ظل ديمقراطية قيد الاكتمال، وهو أمر شبيه بأوضاع بلاد أوروبية ديمقراطية فى الستينيات، وبعض بلدان الديمقراطية المقيدة الحالية مثل روسيا والمكسيك وجنوب أفريقيا، حيث يوجد بها حزب حاكم مهيمن قادر على الفوز فى الانتخابات، دون تزوير، ويضمن من خلال تأثيره أو سيطرته على جهاز الدولة وامتلاكه ماكينة انتخابية قوية أن يفوز فى الانتخابات.
إن تجربة «العدالة والتنمية»، رغم خلفيته الثقافية الإسلامية أو المحافِظة، فإنها بعيدة عن تجربة الإخوان فى العالم العربى (راجع مقالات «مصر ليست تركيا» بـ«المصرى اليوم»)، وهى أقرب لتجارب الحزب المهيمن وتجارب الديمقراطيات غير المكتملة خارج العالم العربى والإسلامى.
وبقيت مشكلة الأحداث الأخيرة فى تركيا تكمن فى الخطاب السلطوى والاستعلائى الذى استخدمه أردوجان مؤخرا، وسبق أن استخدمه كثير من قادة دول العالم، فـ«ديجول» فى فرنسا استخدم تجاه ثورة الطلاب فى 1968، (التى أسفرت بعد استفتاء عن استقالته)، تعبيرات ازدراء وتهكم على المحتجين، وتعامل باستعلاء شديد مع مطالبهم (على طريقة أنهم شوية عيال)، أما هم فقد وصفوا الديجولية بأنها هى الأمن وديجول، وهاجموا هيمنته و«استبداده».
وكلما كان البلد متقدما نسبيا ولديه مؤسسات ديمقراطية، وأحزاب منظمة، وجمعيات أهلية، ودولة متماسكة وقوية، فإن مآل هذه الاحتجاجات يؤدى إلى استقالة رأس النظام، ومجىء آخر سواء من داخل حزبه أو عبر انتخابات جديدة مبكرة، ولعل هذا هو الفارق الرئيسى بين ما جرى فى مصر وتركيا، فلحظة سقوط مبارك كشفت أن تحت أجهزة أمنه نظاما مفككا ودولة هشة، بعد 30 عاما من التجريف والتخريب، وشهدنا فشل المجلس العسكرى الذى كان جزءا من نظامه وضعفه والمسار المتخبط الذى وضعنا فيه، وأسفر فى النهاية عن وصول الإخوان للسلطة، دون دستور أو قواعد قانونية مسبقة.
أما تركيا فإن نتائج الاحتجاجات ستكون مختلفة تماما عن مصر، فإذا استمر الضغط الشعبى والاحتجاجى على السلطة الحاكمة، واستمر أردوجان فى تجاهل الأبعاد الجيلية والنفسية لثورة قطاع من الشباب، ومشكلة بقائه 12 عاما فى السلطة، ورغبته فى أن يستمر حتى النهاية بتغيير الدستور، والترشح لانتخابات الرئاسة، فإنه سيضطر، فى يوم من الأيام، لأن يترك السلطة، ولو بعد انتخابات العام القادم.
إذا استمر أردوجان فى الحديث عن مؤامرات المعارضة، وعن أن القضية فى رفض البعض إعادة بنائه الثكنة العثمانية التى هدمها حزب الشعب الجمهورى (العلمانى)، ويرغب هو فى بنائها، فإن الحاجز بينه وبين الشباب والمحتجين سيزداد عمقا، خاصة أن هناك تيارا داخل حزبه يمثله عبدالله جول لا يوافق على كثير مما يفعله.
من الوارد أن يبقى أردوجان فى السلطة حتى العام القادم، موعد إجراء الانتخابات البرلمانية، ويترشح ويخسر الانتخابات، أو يفشل فى تمرير دستور النظام شبه الرئاسى الذى سيسمح له بالترشح كرئيس للجمهورية، أو يعيد حزبه بناء نفسه على أسس جديدة تتجاوز بشكل هادئ سلطة أردوجان.
القضية ليست فى استقالة مَن فى الحكم، إنما فى طبيعة النظام الذى تركه، وهل سيساعد على بناء الديمقراطية وتطور المجتمع أم لا، خاصة إذا كان من يعارضونه هم قوى احتجاجية غير منظمة قد تكون قادرة على إسقاطه، لكنها غير قادرة على بناء نظام جديد.