كنا قد تشاجرنا كثيراً الليلة الماضية. سارة تريد دمية سوسن. وأحمد استولى على دراجة محمود. ورغم أننا كنا ننتظر العطلة الصيفية بفارغ الصبر كى يتلاقى أولاد العم ويتجمع شمل العائلة ونلهو فى حديقة جدى الواسعة، فإن الكلمات الطائشة أوغرت الصدور. تبادلنا اللكمات، وتشاتمنا حتى اندلع فى صدورنا حريق صغير. تمنينا أسوأ الأمنيات لبعضنا البعض. محمود تمنى لأحمد أن تفرمه دبابة. أما سوسن فقد تسلت بتخيل سارة تحت وطأة التعذيب. ثم سرعان ما تذكرنا أيامنا الخالية واللهو البرىء المشترك، ثم اتفقنا أن نحتكم إلى جدنا العزيز.
تعالت أصواتنا ونحن نحكى قصتنا. فأصغى جدنا فى هدوء عذب. وارتسمت السكينة على وجهه المغضن بالتجاعيد. قال وهو يثنى قدمه تحت ركبته: «هل تعرفون قصة البشر والطيور؟».
وارتفعت أصواتنا بالنفى، وقد راق لنا الأمر. قال جدى: «فى بداية الخلق، حينما كانت الشمس جديدة، والقمر جديداً، وكل شىء فى الأرض جديداََ، كانت المخلوقات لحظة نزولها على الأرض تُخيّر: هل تحب أن تمشى أو تسبح أو تطير. ولما كانت كلها جديدة وغريرة، ولا سابق خبرة لها فى هذا الأمر، فقد كانوا يختارون حيثما اتفق. اختارت الأسماك والحيتان أن تعيش فى الماء فخُلقت لها زعانف. واختار الإنسان أن يطير فخُلق له جناحان، واختارت الطيور أن تسير فخُلقت لها قدمان كبيرتان. لا تقاطعونى. لا يوجد خطأ فى الأمر! أنتم تظنون أن جدكم العجوز يخرف! هه».
قلنا فى صوت واحد: «سنصمت يا جدنا الحبيب ولن نتكلم».
قال: «هذه الأمور كانت فى وقت سحيق. كان البشر يطيرون فى الهواء، ويقفون على قمم الأشجار بمنتهى السهولة، ويقطفون الثمار. ومن آن إلى آخر يهبطون إلى الأرض فى سرعة خاطفة يصطادون الحيوانات. وكان مشهداً معتاداً أن ترى رجلاً يمسك بأسنانه حملاً صغيراً وهو يطير فى الهواء. وبالعكس كانت حياة الطيور. يسيرون على الأرض ويتناولون الثمار. وينظرون إلى البشر الطائرين فى حسد، ويقولون فى حسرة: لقد أخطأنا خطأ كبيرا حين اخترنا حياة الأرض. ما أجمل أن تحلق فى الهواء وتأوى إلى أفنان الأشجار». وسمعهم البشر فقالوا هم الآخرون: «بل على العكس. لقد كنتم محظوظين حين اخترتم حياة الأرض. ما أسوأ أن تظل هائما فى الفضاء، بلا أرض ولا هوية». قالت الطيور على الفور: «هل تبادلوننا؟» وقال البشر فى اللحظة نفسها: «هل تبادلوننا؟». وبالفعل تم التبادل. صارت للطيور أجنحة واضمحلت أقدامها الطويلة حتى صارت قدمين صغيرتين. وكذلك البشر، فقدوا الجناحين اللذين تحولا إلى ذراعين. ومات هذا الجيل، والجيل الذى يليه. ثم تناسلت الأجيال وجهلت المنشأ الأول. وصار البشر كلما شاهدوا طيراً يرفرف حسدوه. وصارت الطيور كلما شاهدت بشراً يسير حسدوه. لا أحد يا أحفادى الصغار يرضى بحاله.
وسكتنا وقد تكشف لنا مغزى القصة. أشار جدنا إلى سارة فاقتربت فى خجل: «لماذا أخذتِ دمية سوسن وتركتِ دميتك؟»، وأشار جدنا إلى أحمد: «لماذا استوليتَ على دراجة محمود وزهدتَ دراجتك؟»، ثم قال جدى وعيناه تتسعان فى رعب:«ما هذا؟ لقد نبت لكم جناحان؟». وهرعنا نتحسس موضع الذراعين فى فزع، فانطلقت ضحكة جدى هانئة مجلجلة، وضحكنا كلنا معه.