بمجرد إعلان فوز الفيلم الفرنسى «الأزرق اللون الأكثر دفئًا» للمخرج التونسى الأصل عبد اللطيف كشيش الذى يقدم علاقة بين امرأتين، تعددت التفسيرات التى تنتهى جميعها إلى أن السياسة لعبت دورًا وأن جائزة السعفة الذهبية تم توجيهها لكى تمهد الطريق أمام الرئيس الفرنسى للتوقيع على قانون يبيح الزواج بين المثليين جنسيًّا.
جاء ردّ رئيس لجنة التحكيم المخرج ستيفن سبيبلرج على طريقة محمد مرسى «دونت ميكس»، كان مرسى يقول «لا تضع الغاز على الكحول»، بينما أكد سبيبلبرج أن السياسة لم تدخل إلى غرفة التحكيم فى أثناء مناقشتهم مصير الجوائز.
ورغم أن السياسة نرى بصماتها وهى تطل بقوة فى الأفلام والمهرجانات، بل إن تاريخ المهرجانات السينمائية العالمية الكبرى يعبِّر عن الوجه الآخر للصراعات السياسية والعسكرية واللوجيستية، هكذا مثلا كان الطاغية الفاشيستى موسولينى هو أول مَن فكّر فى إقامة مهرجان البندقية (فينيسيا) ليعبر عن توجُّه «المحور»، وجاء الرد بعدها مباشرة من فرنسا بإقامة مهرجان «كان» ليصبح منصة دفاع ثقافى عن القوة الأخرى فى الصراع (الحلفاء)، وتأخر افتتاح «كان» بضعة أعوام بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، لكن لا يمكن أن تُصبح دائما زاوية الرؤية سياسية فقط.
أحيانًا أخرى نجد أنفسنا وقد وقعنا فى شَرَك القراءة التى تحمل تعسُّفًا سياسيًّا. كنت قد كتبت عن فيلم السعفة مقالًا عنوانه «بورنو إلا قليلًا»، إلا أن هذا لا يعنى أن اللجنة تعمدت منحه الجائزة على حساب أفلام أخرى تستحق، وأن توجهًا سياسيًّا دفعها إلى ذلك، بدليل أن جائزة «الفيبرسكى» (اتحاد النقاد الدوليين) برئاسة الناقد الألمانى كلاوس إيدر التى سبقت جائزة لجنة التحكيم بأربع وعشرين ساعة منحت جائزتها أيضًا لنفس الفيلم. كما أن أغلب المجلات التى تصاحب المهرجان قد منحته أعلى التقديرات بالقياس إلى الأفلام التى نافسته.
إذا اقتربت من الصورة أكثر فسنكتشف أن عددًا من النقاد يلعب دورًا فى إضفاء غطاء سياسى على نتائج مهرجان أو يمنحون عملًا فنيًّا رداءً فكريًّا لم يقصده على الإطلاق. قد يعثرون على تفسيرات خارج النص لم تخطر على بال مبدع العمل الفنى، البعض يعتبرها مثل «الكاتشب» تُعلِى من تذوُّق عمله الإبداعى، ولا يكتفى بإظهار سعادته بهذا التفسير الذى لم يخطر له على بال، بل ويتعمد تأكيد أنه كان عامدًا متعمدًا، وأن على النقاد أن يغوصوا أكثر ليحصلوا على دُرَر أكثر. قرأت سيرة حياة الكاتب أرنست هيمنجواى صاحب «العجوز والبحر» عندما بدأ النقاد فى البحث عن تفسير لتلك الرواية التى أصبحت واحدة من أشهر وأخلد الروايات فى الأدب العالمى، اعتبروها تقدم رؤية فلسفية للحياة لأن العجوز يبدأ رحلته فى الصيد وعندما يعثر على سمكة كبيرة يمسك بها بقوة وفى نفس الوقت يتحرك قاربه الصغير فى اتجاه الشاطئ وعندما وصل كانت أسماك القرش قد التهمت سمكته الكبيرة ولم يبقَ منها إلا هيكل عظمى، قالوا إن هذا الموقف يشبه رحلة الإنسان فى الحياة عندما تبدأ وهو يعتقد أنه يمسك كل متع الدنيا بيديه ثم ينتهى الأمر بنهايته هيكلًا عظميًّا مثل بقايا سمكة هيمنجواى. التشبيه يضفى كثيرًا من الزخم الفكرى على رائعة الأديب العالمى، ورغم ذلك فإن هذا الثناء أزعجه كثيرًا وقال إنه لم يتعمد أيًّا من هذه الرموز، وأضاف أن هذه التفسيرات تشبه وضع الزبيب على الخبز من أجل تحسين الطعم، وأن كثيرين من الكتاب يهزمون أنفسهم بأنفسهم عندما يستسلمون للزبيب. شىء من هذا تجده مثلًا فى فيلم «شىء من الخوف» لحسين كمال الذى عُرض بعد هزيمة 67، وتتردد فى الفيلم عبارة «جواز عتريس من فؤادة باطل». النقاد حلَّلوا وقالوا إن عتريس هو عبد الناصر وفؤادة هى مصر، وإن الفيلم يدعو إلى طلقة بائنة بين الحكم العسكرى ومصر، وتخوفت وزارة الثقافة ولم تسمح بعرضه إلا بعد أن شاهده عبد الناصر الذى قال وقتها موجهًا حديثه إلى وزير الثقافة ثروت عكاشة: «لسنا عصابة تحكم مصر يا ثروت»، وبالمناسبة حتى فيلم «الحرامى والعبيط» فسره البعض سياسيًّا بأنه يحذِّر من أن تترك مصر الحكم فى يد العبيط. إنها مجرَّد ترهات فى خيال عدد من النقاد، زبيب يضعونه على الخبز أو قليل من «الكاتشب» ليجعله «سبايسى» (ملهلب)، وهذه المرة نقول لهم «دونت ميكس»!