علينا أن نجنب مصر مصيرا مشابها.. فالخاطفون لها لا تهمهم «الدولة» بقدر ما يهمهم المشروع الخاص
600 جريمة اختطاف وقعت خلال 5 أشهر فقط.. آخرها خطف نائب مدير البنك الأهلى
ثمة جرائم تقليدية فى المجتمع المصرى، لها تاريخ وتراث، كتجارة المخدرات والبلطجة والسرقة، لا يمر يوم دون أن تشاركنا ضوء النهار وحرارة الشمس وسواد الليل والشتائم الشعبية الدارجة على الألسن، وجرائم أخرى تزورنا على أيام أو تخبطنا على رؤوسنا أحيانا، ونراها فى أفلام السينما وشاشات التليفزيون أكثر من الواقع مثل الخطف والسطو المسلح، ويبدو أن الثورة غيرت قوانين الألعاب الخفية فى البيئة المصرية، أو بمعنى أدق وأصح ليست الثورة وإنما تداعياتها وعوارضها الجانبية وما آلت إليه من خيبة الرجاء وتفكيك الدولة من أجل تمكين الجماعة من مفاصلها ومؤسساتها، كل هذه المصائب هى التى غيرت «قواعد» اللعب فى عالم الجريمة، فأصبحت جريمة الخطف خبزا يوميا على موائد المصريين، خطف عينى عينك وأمام الجميع، وقد تجاوزت فى محافظة سوهاج على سبيل المثال جرائم الثأر، ولم تعد مقصورة على الأغنياء ورجال الأعمال وامتدت إلى أنصاف القادرين (هوجة أو شوطة)!!
صحيح أن بعض علماء الجريمة أرجعوا «شيوع» الجريمة إلى الانفلات الأمنى، لكن مؤكد أن الحالة العامة هى التى تعيد رسم خريطة الجرائم والمجرمين، ترفع من بعضها درجات وتنزل ببعضها درجات، فالأيام دول ولا يبقى شىء على حاله، فإذا كانت الدولة المصرية «مخطوفة» من الجماعة.. فكيف لا تنتشر جريمة الخطف؟!
قد يقول حكماء الخلايا النائمة وجواسيس الغزاة الجدد: لم يحدث خطف للدولة، لأن الرئيس جاء بأصوات الناس الموضوعة فى صناديق الانتخابات الزجاجية، وهو رئيس شرعى!
قطعا.. هذا كلام صحيح مائة فى المائة..
لكن الرئيس لا يحكم وحده.. وتحكم معه جماعة غير شرعية ليس لها أى سند من القانون، وأحيانا يبدو مكتب الإرشاد كما لو أنه المندوب السامى الجديد فى مصر، يأمر ويحكم ويسيطر، والرئيس عليه الطاعة، هكذا تعلّم فى الجماعة وتدرب عليها وعاش أيامه، وأقسم يمين الولاء لها، ولا أظن أن ثمة رئيسًا فى دولة على وجه الأرض أو باطنها مربوط فى عنقه «قَسم» لحزبه السياسى أو جماعته أو أهله وعشيرته، تخيلوا معى أن أقدم دولة فى التاريخ ولاء رئيسها لها أقل من ولائه لجماعته..
كم عضو فى الجماعة تحدث باسم الرئيس فى أمور شديدة الخطورة تمس الدولة وكيانها من أول انقطاع الكهرباء إلى القوات المسلحة؟!
كم تصريح للمرشد السابق والحالى وخيرت الشاطر وغيرهم عن قضايا سياسية واقتصادية وقانونية وهُم رسميا ليس لهم لا فى الثور ولا فى الطحين؟!
هو فيه رئيس يفضح وطنه أمام العالم على الهواء مع سبق الإصرار والترصد فى مناقشة «مياه النيل وسد النهضة الإثيوبى»؟!، هل رأيتم أمرا مشابها فى دويلة أو إمارة أو قطاع أو قبيلة عبر التاريخ كله؟!
ألا تصرخ هذه الواقعة الرهيبة فينا بأن مصر «مخطوفة» فعلا، وعلينا أن نسدد فديتها فورا مهما كان الثمن الذى ندفعه؟!
قد لا نقبل ولا نرضى أن ندفع فدية لمجرمين اختطفوا شخصا فهذا تحريض على مزيد من جرائم الخطف، فلماذا علينا أن ندفع الفدية لنحرر مصر المخطوفة من خاطفيها؟!
لأننا شركاء فى الجريمة، نحن الذى أعطيناهم كلمة السر، وساعدناهم وهم يجرجرون مصر من شعرها ويمرمغون شرفها فى الوحل.. نحن الجناة أيضا، وعلينا أن نعترف بذنبنا ونجلد أنفسنا، ونستغفر ونتطهر بدفع الثمن المطلوب مهما كان تكلفته لتحريرها من «حرمالك» الجماعة!
قطعا هو أمر صعب وليس هينا.. كما هو الحال فى جرائم خطف الأشخاص، فأحيانا يدفع أهل المخطوف الفدية، ثم يحصلون عليه جثة هامدة، كما حدث فى المنيا، فالخاطف طلب ثلاثين ألف جنيه من والد الطفل الذى خطفه، ولأنه خاطف غشيم، لا يعرف مكانا نائيا يخفى فيه الطفل عن الأعين والآذان، فكمم فم الطفل بشريط لاصق كبير ووضعه فى شوال، فاختنق الطفل ومات، وحين حصل على الثلاثين ألف جنيه، وراح يحضره وجده جثه، ولأنه بلا ضمير على الإطلاق، ألقاها فى الصرف الصحى!
يا للبشاعة والخسة..
وعلينا أن نجنب مصر مصيرا مشابها.. فالخاطفون لها لا تهمهم «الدولة» بقدر ما يهمهم المشروع الخاص، وقد تختنق الدولة وهم ينفذون مشروعهم ويجنون أرباحهم.. لكن لا شىء يهم غير ما يسعون إليه!
لكن فى عالم خطف الأشخاص، فى الغالب يلتزم الخاطف المحترف بتنفيذ اتفاقه، لأن هذه الجريمة ودوامها مرتبط بعدم الإخلال بالشروط، وإلا انعدمت ثقة أهل المخطوف فى خاطفيه، وبدلا من الانصياع ودفع الفدية فى السر، قد يبلغون البوليس، لأن المخاطر واحدة..
أما الخاطفون الهواة، أو «محدثى الإجرام» الذين دخلوا العالم السفلى فجأة لأى سبب من الأسباب، فهم بلا دوافع فى التخلص من المخطوف بالقتل، لأن القتل جريمة أخرى يلزمها مواصفات نفسية خاصة لإزهاق روح آدمى!
الأرقام الرسمية لجرائم الخطف فى خمسة أشهر من العام الحالى لا تقول الحقيقة، فهى تحددها بستين جريمة فقط، خبراء الجريمة يرجحون الرقم الحقيقى بعشرة أضعاف، أى ٦٠٠ جريمة، لأن الخطف كالاغتصاب ليس من الجرائم التى يسرع ضحاياها إلى الشرطة.. فالستر واجب لحماية الضحايا!
وآخر جريمة معلن عنها وقعت فى الهرم مع نائب مدير البنك الأهلى وهو عائد إلى بيته فى نهاية يوم عمل، المدهش أن الجرائد نشرت الخبر كالعادة أن مجهولين هم الذين نفذوا الجريمة، كما لو أن هذا النوع من الجرائم يرتكبه «معروفون بالاسم والهيئة» أو مجرمون يتركون «بيزنس كارت» فى مسرح عملياتهم.. وفى هذا المرة نسوا أن يذكروا أسماءهم.
الأغرب أن رقم الفدية كان كبيرا للغاية (٢ مليون جنيه)، ولا نعرف على وجه الدقة هل خلط الجناة بين كون الضحية موظفا كبيرا فى بنك أم لا!
المهم أن الخاطفين أطلقوا سراحه بعد ثلاثة أيام دون دفع الفدية المطلوبة.. وهذا كلام فيه «قولان»، فهل هؤلاء الخاطفون ذو قلوب رحيمة رقت على حال الرجل أم أنهم يقلدون ما حدث مع جنودنا السبعة المخطوفين فى سيناء والذين أفرجت عنهم جماعة إرهابية دون « تنفيذ» مطالبها كما يشاع؟!
الله أعلم.. وإن كنت أرجح أن عائلة الرجل دفعت من تحت الترابيزة، مما سهل عودته، ولنا فى حوادث سرقة السيارات «القرائن الدالة»، ولى صديق سرقت سيارته وحين أبلغ الشرطة نصحه ضابط المباحث بأن يدفع «المعلوم» للسارقين حين يتصلوا به، وإذا لم يتصلوا فهو يعرف وسطاء فى هذا الشأن..
المهم أن عملية الخطف جرت كما فى أفلام السينما بالضبط، إذ اعترضت سيارته فى طريق الواحات دراجة بخارية عليها ثلاثة أشخاص بالرشاشات، أوقفوه واستولوا على سياراته، ثم قيدوه بالحبال وعصبوا عينيه، ووضعوه بالمقعد الخلفى للسيارة واقتادوه إلى مكان مجهول..
لم يقل الرجل هل عادت سيارته معه أم لا..
لكن النيابة العامة أمرت بسرعة الانتهاء من تحريات المباحث والقبض على الجناة المجهولين!
والخطف عموما له أشكال كثيرة وأسباب غير الفدية كالانتقام والثأر، والضغط على الدولة كما فى عمليات خطف السياح فى سيناء، ضغط على الدولة التى تهمل مواطنيها على الحدود الشرقية!
وأحيانا يتحول الخطف إلى لعبة وبلطجية كما حدث فى حلوان، فقد عاد الزوج من عمله فلم يجد زوجته ولا طفلته، فجن جنونه وساق الهبل على الشيطنة، راح لأقاربه وبعض البلطجية وقال لهم على طريقة نور الشريف فى الفيلم الذى يحمل هذا الاسم: إلحقونا!؟
ردوا: فيه إيه؟!
قال: بنتى اتخطفت!
وحسب الموضة الشائعة هجم «المتجمعون» على طريق الكورنيش، وقطعوا ما بين المعادى وحلوان لمدة ست ساعات، تخيلوا معى ست ساعات فى جنوب العاصمة المصرية، وحين جاءت قوات الشرطة قذفوا عليهم الحجارة والمولوتوف المشتعل!
والحكاية أن الزوجة هربت من بيت الزوجية بالطفلة، بعد خلافات وضرب وإهانات، واخترع الزوج الحكاية كى تعيد الشرطة طفلته إليه، ربما معها الزوجة فوق البيعة أو دونها.
على الفكرة النيابة أمرت بسرعة القبض على جميع المتهمين الذين قطعوا الطريق ست ساعات (ومالقوش حد يقبضوا عليه متلبس).
يا أهل البلد.. البلد مخطوفة.. يا ترى فيكم رجال يقدروا على تحريرها؟!