تلقيت دعوة كريمة من السيد رئيس اللجنة المالية بمجلس الشورى للمشاركة فى جلسة حوار تضم بعض رجال الاقتصاد لمناقشة قضية العجز فى الموازنة العامة وكيفية معالجتها. وقد أبلغت السيد رئيس اللجنة، بأنه ليس لدى جديد فى الموضوع، وأن آرائى معلنة ومكتوبة ومنشورة ولذلك، فإننى لا أرى جديداً يمكن أن أضيفه، ولكنه أصر على أهمية الحضور فى بداية سلسلة للجنة الاستماع لمختلف الآراء فى هذه القضية المهمة.
وقد حضرت الاجتماع فى مقر المجلس، وشارك فى الاجتماع السيد وزير المالية والدكتور على لطفى والدكتورة يمن الحماقى، وقد فهمت أن هناك سلسلة من الاجتماعات حول نفس الموضوع.
وليس هنا مجال ترديد ما ذكرته فى هذه الجلسة عن موضوع عجز الموازنة وخطورته وضرورة البدء فى اتخاذ إجراءات سريعة وحازمة، مع بدء عملية توعية للشعب لمعرفة مدى خطورة الأوضاع المالية وعدم قابليتها للاستمرار، فالمصارحة هى الطريق الوحيد، ولا يمكن أن نعالج هذه المشكلة إذا لم يكن الرأى العام على وعى كامل بحجم المشكلة، وأن تأجيل المواجهة لن يؤدى إلا إلى مزيد من الصعوبة فى العلاج.
وليس الغرض من هذا المقال تكرار ما قلته فى اللجنة، فهو لا يخرج عما كنت أقوله باستمرار، وقد نشرت لى مقالات عن العجز والدعم منذ عدة عقود، وأذكر منها مقالاً نشرته «الأهرام» للتحذير من خطورة تضخم حجم الدعم، وكان عنوان المقال «الدعم كالملح: كثيره يفسد الطعام»، وقد «أعيد نشر هذا المقال فى كتابى «فى الحرية والمساواة»، 1985. ولكن ما استرعى انتباهى فى هذه الجلسة هو رد الفعل الحاد على ملاحظة سريعة أبديتها فى إطار الحديث عن وضع ضوابط للحدود القصوى لما تدفعه الدولة للعاملين فيها. وكان موضوع التفاوت فى الرواتب والأجور إحدى أهم القضايا التى شغلتنى عند دخولى الحكومة، وقد قدمت فى ذلك الوقت تقريراً لمجلس الوزراء لضرورة وضع ترتيب لعلاج هذه القضية، مؤكداً على مبدأين: تطبيق الشفافية من ناحية، وتحديد العلاقة بين الحدود الدنيا والقصوى من ناحية أخرى. وهكذا قدمت لحكومة الدكتور عصام شرف «مشروع قانون: بشأن المرحلة الأولى للحد الأقصى للأجور وربطه بالحد الأدنى للأجور»، ووافق عليه مجلس الوزراء آنذاك فى اجتماعه فى 30 أكتوبر 2011. وقد صدر هذا القانون بعد ذلك فى ظل حكومة الدكتور الجنزورى بغير تغيير ـ باستثناء تخفيض الحد الأقصى من 36 ضعفاً إلى 35 ضعفاً من الحد الأدنى.
أما ما أشار دهشتى هو أنه فى خلال المناقشة لبند الأجور والرواتب فى الموازنة، توجهت إلى السيد رئيس اللجنة المالية متسائلاً عما إذا كانت مكافآت السادة النواب لا تزال تستمر على التقليد الذى كان سائداً فى العهد السابق. فذكرت له أننى كنت أعلم أن السادة أعضاء مجلسى الشعب والشورى كانوا يتقاضون فى ذلك الوقت، إلى جانب المكافأة المقررة لأعضاء البرلمان، «بدل حضور» عن اجتماعات اللجان وغيرها. وكان سؤالى هل مازال هذا التقليد مستمراً؟ فأكد لى السيد رئيس اللجنة أن النظام ما زال مستمراً بعد إدخال بعض الضوابط عليه. وهنا أبديت ـ كما سبق أن نشرت فى ذلك الوقت ـ استغرابى لحصول عضو البرلمان على «بدل حضور جلسات» إلى جانب مكافأة العضوية، طالما أن الوظيفة الرئيسية للعضو هى حضور الجلسات؟
وهنا تدخل أحد السادة النواب المحترمين، بالاعتراض على تساؤلى، قائلاً إن الجلسة التى نعقدها مسجلة وتذاع على الهواء، وأن من شأن هذا التساؤل أن يثير الرأى العام على المجلس وأعضائه، وبدأ يوجه لشخصى انتقاداً، بأننى كنت أحصل على مكافآت كبيرة وأنا عضو فى الحكومة. وهنا تدخل السيد رئيس اللجنة، مذكراً العضو المحترم، أن المتحدث ـ وهو شخصى الضعيف ـ اعتذر عن عدم قبول «بدلات حضور» اجتماعات سواء فى هيئة البترول أو هيئة المعاشات، وأعاد هذه المكافآت إلى خزانة وزارة المالية، أما ما أثار دهشتى فهو أن اعتراض السيد النائب المحترم قد ركز على أن هذا الحوار سوف يذاع على الهواء، وبذلك بدا كما لو كان اعتراضه هو على مبدأ الشفافية. فلم يقدم العضو المحترم تبريرات للحصول على «بدل الحضور»، وإنما أبدى تذمره الشديد من إبداء هذه الملاحظات على نحو مطروح على الرأى العام.
وليس الغرض من هذا المقال، نشر ما حدث فى هذا الاجتماع، فهو مسجل، وأعتقد أنه أذيع على الهواء. ولكن المشكلة التى أود أن أؤكد عليها هى مسألة «الشفافية»، فلا يضير أحد أن يحصل على عائد مقابل ما يقوم به من جهد. ولكن عندما يتعلق الأمر بما يحصل عليه المسؤولون مقابل قيامهم بدورهم، فإنه ينبغى أن يكون محل شفافية كاملة. ولا أحد يضار من المسؤولين بأن يعلن على الملأ ما يحصل عليه من خزانة الدولة مقابل مسؤولياته فى الخدمة العامة. وقد أشرت إلى أننى كنت أرى دائماً أن ضبط التفاوت فى الرواتب والأجور لا يتطلب فقط تحديد الحد الأقصى، بل يحتاج أيضاً إلى الأخذ بمبدأ الشفافية، على ما سبق أن أشرت. ولعله من المناسب أن أذكر السيد النائب المحترم، أن هذه المبادئ لم تكن مجرد أقوال مرسلة، بل أنى أرسلت فى ذلك الوقت خطاباً مفتوحاً لجريدة الوفد ونشر بتاريخ 4 سبتمبر 2011 متضمناً تفاصيل ما حصلت عليه من رواتب، ولكنى لم أعلن ساعتها اعتذارى عن عدم قبول «بدل حضور» اجتماعات لمجالس الإدارات، ولكن ذكرتها بعد ذلك فى كتابى الذى أصدرته عن تجربة العمل الوزارى.
وليس الهدف من هذا المقال توجيه الاتهام إلى «بدلات الحضور» الإجمالية لأعضاء المجالس التشريعية، بل القضية هى وضع مبدأ «الشفافية»، فيما تقدمه الدولة لعمالها من مكافآت وتعويضات موضع التنفيذ. وقد نشرت بعض الصحف أخيراً ما ذكرت أنه مجموع ما يحصل عليه السيد رئيس الجمهورية من رواتب ومخصصات مما أثار الكثير من التساؤلات. وأعتقد أن المصدر السليم لمعرفة هذه الأمور لا يكون من خلال التحقيقات الصحفية، بل يجب أن يكون هذا النظام ممنهجاً ومنشوراً بشكل رسمى وشفافية كاملة. وهذا ما نراه فى الدول الديمقراطية، حيث تنشر الدولة بشكل كامل تفاصيل ما يحصل عليه كبار رجال الدولة من تعويضات مقابل خدماتهم الكبيرة. وليس فى هذا أى مساس بأهمية أو تقدير شاغل الوظيفة، بل هو احترام للشعوب التى اختارت ممثليها للقيام بالوظيفة العامة. وعندما يتعلق الأمر بممثلى الشعب فى البرلمان، فإن الأمر يصبح أكثر ضرورة.
أرجو أن تكون رواتب وبدلات ومخصصات كبار المسؤولين معلنة ومنشورة بدءاً بالسيد رئيس الجمهورية ومعاونيه والوزراء، وكذا أعضاء المجالس النيابية والمحلية، فلا أحد يخشى من الشفافية، إذا كان ما يحصل عليه هو المقابل العادل لما يتحمله من مسؤولية. «الشفافية» فيما تقدمه الخزانة العامة، خاصة لكبار المسؤولين، ليست إهانة لهم بقدر ما هى تقدير لهم واحترام للشعب الذى دفعهم لتولى هذه المسؤوليات. والله أعلم.