لا شك أن وصول تيارات اليمين الدينى المتطرف إلى السلطة فى بعض دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط جاء بسبب أخطاء منهجية ووجودية، ليس فقط من جانب الأنظمة السياسية الاستبدادية التى حكمت فى السابق وما زال بعضها يحكم إلى الآن، بل أيضا من جانب قوى المعارضة بكل فصائلها وأطيافها. وإذا كان هذا اليمين الدينى المتطرف قد وصل عن طريق التلاعب بالدين واستغلال الفقر والجهل الذى أسست له الأنظمة السابقة، فهو الآن لم يعُد بحاجة لا إلى الدين ولا إلى التلاعب به. إنه بحاجة إلى التمكين وإحكام قبضته على مفاصل الدولة بأى ثمن ولو ضحَّى بنصف هذه الدولة، أو قام بأدوار خدمية لدى قوى بعينها مقابل دعمه فى الوجود والتفاعل. وهو بالضبط ما يجرى فى كل من مصر وتونس عمومًا، وفى مصر على وجه الخصوص.
ولكن ما يجرى حاليا فى تركيا يُعتبر مؤشرا مهما على صعيد وجود التيارات اليمينية الدينية المتطرفة فى السلطة، وإن ادَّعَت أنها تؤسس لدول مدنية أو علمانية، أو حتى كانت عضوًا كاملًا فى أحلاف عسكرية-استعمارية مثل حلف شمال الأطلسى. وحسب مشاهداتى منذ كنت فى إسطنبول مع بداية الأحداث، فالشعب التركى ضاق ذرعًا بحكومة رجب طيب أردوغان الإسلامية وممارساتها الداخلية، والخارجية التى أصبحت تنعكس سلبا على مستقبل الأمة التركية التى اختارت طريقًا بعيدًا عن الهوس الدينى والمغامرات الإقليمية الصغيرة حتى عام ٢٠٠٣ تقريبًا. وبطبيعة الحال، يمكن أن ندرك أن احتجاجات الأتراك حاليًّا لم تكن إطلاقًا بسبب قطع الأشجار فى «غيزى بارك» ولا «بناء مجمعات تجارية فى ميدان تاكسيم»، بل بمطالب اجتماعية تبلورت خلال ٥ أيام من بدء الاحتجاجات وأصبحت واضحة وتمثِّل مطالبَ لتحوُّل تاريخى واجتماعى. إضافة إلى مطالب تتعلق بالحريات الشخصية والعامة والدينية التى بدأت تتآكل منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم فى أنقرة، وتوريط تركيا فى مقامرات إقليمية لصالح الولايات المتحدة وحلف الناتو ضد دول جارة أو قوى إقليمية بعينها.
إن اتساع رقعة الاحتجاجات فى تركيا يعكس حقيقة بسيطة للغاية، ألا وهى أن الشباب يبحث عن هُوِيَّته. فميدان «تاكسيم» فى إسطنبول لم يتحول إلى رمز لثورة شباب تركيا فحسب، بل أيضا إلى ساحة للبحث عن المستقبل وعن هُوِيَّة تركية ترتكز على ثوابت العلمانية والحريات والتحديث بعيدًا عن الدجل الدينى. وقد يبدو هذا غير واضح فى الأيام الأولى لاحتجاجات اندلعت بطول البلاد وعرضها، لكنه يتبلور تدريجيًّا.
الرقص والغناء والموسيقى أصبحت معادِلات موضوعية للغضب والاحتجاج. والإمعان فى ممارسة الحياة الطبيعية والصحية ضد المخاوف من تراجع الحريات وتغيير مسار ميراث مصطفى كمال أتاتورك الذى صار من علامات الساحات والميادين. وما يسمى بالإسلام السياسى المتلفح بالعلمانية لم يعد يلبى طموحات الأجيال التركية الشابة، فخرجت بمئات الآلاف، وربما بالملايين، لترسم ملامح جديدة. لقد أربكت الهبَّة المفاجئة للشباب التركى حسابات الكثيرين، فبينما البوصلة تتجه نحو التيارات اليمينية الدينية المتطرفة فى المنطقة، تسعى تركيا لتوجيهها نحو الإجابة عن السؤال الأبدى الذى يشغل بال الشعوب فى أثناء الأزمات والتحولات التاريخية.
لا تحرُّش فى الميادين التركية. ميدان «تاكسيم» بدأ يمتلئ بالخيام وشاشات العرض، والشباب يقيم هناك فى «الميدان»، ولا أحد يتحدث عن مخدرات أو سُكْر وعربدة أو ممارسة جنس.. بينما تصريحات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ونوابه ووزير داخليته ومعهم الرئيس عبد الله جول تكاد تكون متطابقة حرفيًّا مع تصريحات مبارك وصفوت الشريف وعمر سليمان وأنس الفقى وحبيب العادلى فى الثمانية عشر يومًا الأولى فى الثورة المصرية. بل تصل الأمور إلى أن جزءًا كبيرًا منها هو مجرَّد تكرار لتصريحات الرئيس محمد مرسى ومستشاريه وأعضاء مكتب الإرشاد. لكن المعارضة والقوى السياسية والشباب لا يأخذون أيًّا منها على محمل الجد!
من الواضح أن الشعب التركى اختار طريقه بعيدًا عن حلم الخلافة والإمبراطورية العثمانية التى يريد أردوغان إعادتهما بثياب جديدة كخادم أمين للقوى الاستعمارية الكبرى، وبالتالى تعالت نغمة التيار اليمينى الدينى المتطرف بأن الأتراك يثورون ضد الحكم الإسلامى بسبب منع الخمر والقبلات فى الشوارع وحظر ممارسة العهر! بينما الأجيال التركية الجديدة لا تلتفت إلى ذلك أصلًا، لأنها تمارس حياة طبيعية. كل ما فى الأمر أن أوراق أردوغان تحترق فى هدوء، وتسقط كل الأوهام المحيطة بالتجربة التركية «الرائدة»! وبالتالى، يبدو أن عصر المؤمنين الذين وصلوا «من أجل نشر الإسلام من جديد فى صفوف الشعوب الكافرة والهمجية» بدأ يشارف على الانتهاء قبل أن يتمكنوا من هداية ولو قوم واحد من الأقوام الكافرة!