تتبع الحكومة الإثيوبية دبلوماسية هادئة تجاه كل ما يجرى من صخب حول مشروع السدود الذى تقوم ببنائه، هذا بعكس الحالة العصبية والمتوترة التى تدير من خلالها الرئاسة المصرية هذا الملف. مؤكد أن ما تقوم به إثيوبيا اليوم على النيل الأزرق سوف يؤثر على حصة مصر من مياه النهر من ناحية، وعلى قدرة السد العالى على توليد الكهرباء فى زمن تعانى فيه مصر بشدة من عجز واضح فى الطاقة الكهربائية. مشروع السدود الإثيوبى كان معروفًا منذ سنوات، وعلى مدار العام الماضى -أى منذ تقلد مرسى السلطة- كان العمل يسير فى المشروع ومن ثم كانت السفارة المصرية هناك على دراية كاملة بكل ما يجرى، وكان أعضاء السفارة يعلمون تفاصيل ما يجرى، والمؤكد أن سفارة هناك كانت تقدم تقاريرها عن كل ما يدور هناك، ومن ثم يصبح السؤال هو: لماذا لم تتحرك الدولة المصرية طوال العام الماضى وتبحث مع الحكومة الإثيوبية سُبُل الحد من التداعيات السلبية لبناء سلسلة السدود على مصر؟ لماذا لم تستثمر الرئاسة والحكومة المصرية زيارات وفود الدبلوماسية الشعبية وتدعُ الحكومة الإثيوبية إلى التباحُث حول طرق زيادة الموارد المائية لنهر من ناحية والإجراءات التى يمكن اتخاذها للحد من التداعيات السلبية لهذا العمل على حصة مصر من مياه النهر من ناحية أخرى؟ أسئلة كثيرة تظلّ دون إجابات محددة وردود شافية من جانب الدبلوماسية المصرية، الحكومة والرئاسة.
يبدو واضحًا أن الدبلوماسية الإثيوبية نجحت فى تسويق مشروعها للعالم كله، فنجد شركات من جنسيات مختلفة، تمويلًا من جهات متنوعة، حالة تفهُّم دولى لما تقوم به إثيوبيا من سلسلة سدود لخدمة مشروعات تنموية طَموح، والملاحَظ أيضا أن الدبلوماسية الإثيوبية نجحت فى أن تجعل مصر تقف بمفردها فى مواجهة مشروع بناء السد، فالجار العربى الذى يحكمه نظام إسلامى، السودان، قال بوضوح شديد إن مشروع سد النهضة الإثيوبى لا يؤثر سلبا على السودان، ومن ثم فالخرطوم ليس لديها أى تحفُّظات على مشروع سد النهضة الإثيوبى. بذلك تكون إثيوبيا قد نجحت فى ضمان تأييد كل دول حوض النيل ما عدا مصر، فدول الحوض السبع الأخرى تدعم وتساند الموقف الإثيوبى تماما، وبخروج السودان عن خط دعم مصر فى هذه القضية تكون كل دول منبع نهر النيل تؤيد الموقف الإثيوبى، ويبدو أن هناك الكثير من الصفقات التى أبرمتها الدبلوماسية الإثيوبية مع دول حوض النيل الأخرى على قاعدة تقاسُم المكاسب، فالمؤكد أن السودان حصل على مقابل ما من الجانب الإثيوبى على النحو الذى جعل البشير يأخذ جانب إثيوبيا ويكرر ما تقول الدبلوماسية الإثيوبية لا ما يقوله مرسى والجماعة فى مصر. أيضا ذكرت أنباء أن تنزانيا وأوغندة صوف تقيمان سلسلة سدود على نهر النيل وربما يكون ذلك ضمن اتفاقات واسعة النطاق بيين دول حوض النيل. أبرمت الدبلوماسية الإثيوبية هذه التفاهمات والاتفاقات دون أن يجمع الرئيس أو رئيس الوزراء مجموعات تتحاور على الهواء وتطلق التهديدات العلنية أو تدعو للتدخل فى الشؤون الداخلية للدول الأخرى، مصر هى الدولة الوحيدة التى ارتكبت كل الأخطاء الممكنة فى إدارة هذه الأزمة، فقد تجاهلت الموضوع برمته، لم تُعِرْه اهتمامًا، فقد كان النظام الجديد مهموما بالتمكُّن من مفاصل الدولة المصرية، كان مستعدًّا لمنح السودان حلايب وشلاتين، ومنح قطعة من أرض الوطن فى الشمال للأشقاء فى حركة حماس، ولم يشغل نفسه بمشروعات دول حوض النيل التى كانت تجرى على قدم وساق، وعندما حانت اللحظة وأطلقت إثيوبيا إشارة بدء تحويل مجرى النيل الأزرق، هرول النظام فأحرق أوراق مصر كاملة وحوَّل الفرص إلى مخاطر شديدة على البلاد. لنا حقوق تاريخية فى مياه النهر، ولنا علاقات تاريخية مع دول حوض النيل، فجاء الرئيس مرسى بمجموعة تحدثت مباشرة عن ضرب إثيوبيا، قصفها بالصواريخ، العبث بأمنها الداخلى، هنا تقدمت إثيوبيا خطوات وقالت إنها ستشكو مصر لدى المنظمات الدولية، واستدعت السفير المصرى لديها للاستفسار عما صدر عن جلسة إدارة أزمة سد النهضة وصدور تهديدات علنية من شخصيات سياسية وعامة مصرية. باختصار نجحت الدبلوماسية الإثيوبية بامتياز فى إدارة مفاوضات واتصالات ملف سد النهضة، وأهدت إليها طريقة الإدارة المصرية للملف نقاطًا كثيرة جَنَتها دون جهد أو عناء.