ذات يوم، وفى مستهل دراستى الجامعية فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، (وكان مقرها الأول فى ملحق كلية الحقوق بجامعة القاهرة)، قرأت إعلاناً عن مناقشة رسالة دكتوراه للأستاذ «يحيى الجمل» خريج «كلية الحقوق» الذى لا يعمل بالجامعة وقتها، فاستهوانى الأمر كثيراً لأننى كنت أريد أن أحضر مثل ذلك الاحتفال الأكاديمى الذى لم أشهده من قبل، ودخلت فى الموعد المحدد إلى المدرج الكبير فى «كلية الحقوق»، وقد احتشد فيه مئات الحاضرين، وجلس على المنصة أقطاب القانون الدولى الثلاثة فى الجامعات المصرية الكبرى الأساتذة الدكاترة: «حامد سلطان» و«محمد حافظ غانم» و«مصطفى صادق أبوهيف»، بينما وقف الطالب على منصة منفردة وبدأ فى عرض رسالته، حيث كان موضوعها يدور حول «نظرية الاعتراف فى القانون الدولى»، وبهرنى الطالب الشاب بلغته الرصينة وموضوعه الشيق، وأظنها كانت أول مرة أستمع فيها إلى عبارات قانونية مثل «غلاة القائلين بالمبدأ» و«الشراح المحدثون» و«نظرية القانون الدولى»، وقضيت يومها عدة ساعات مبهوراً ويقظاً، ألتهم كل كلمة وأتابع كل عبارة سعيداً بالتقاليد الجامعية والجو الأكاديمى الرائع، حتى رُفعت الجلسة للمداولة بين الأساتذة الكبار، ثم صدر قرار اللجنة بالإجماع بمنح الأستاذ «يحيى الجمل» درجة الدكتوراه فى «فلسفة القانون» بأعلى تقدير، وقد مرت الأيام وجرت مياه كثيرة فى نهر الحياة، وجمعتنى ظروف متعددة بالأستاذ الدكتور «يحيى الجمل»، ولعل أبرز فترتين اقتربنا فيهما معاً عندما كانت الأولى أثناء عملى كسكرتير سياسى للرئيس السابق «محمد حسنى مبارك» فى ثمانينيات القرن الماضى، وكان الدكتور «يحيى الجمل» عضواً فى «مجلس الشعب» تحجب عنه الكلمة إذا طلبها بسبب ما أشيع حينذاك عن الاتجاه لانتخابه رئيساً للمجلس، وكان الرجل يشكو مبتسماً وكأن الأمر لا يعنيه، ثم كانت المناسبة الثانية عندما كنا عضوين فى لجنة منح جوائز الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية، التى كان يترأسها أستاذنا الدكتور «مصطفى سويف»ـ أطال الله فى عمره ـ وفى الحالتين البرلمانية والأكاديمية كان هو دائماً الدكتور «يحيى الجمل» الرجل البسيط القريب من الناس المحب للآخرين، وفى السنوات التى سبقت ثورة يناير 2011 كانت أحاديثه ومقالاته وقوداً للثورة الشعبية، ويكفى أن نتذكر رسالته المفتوحة إلى الرئيس السابق قبيل الثورة بشهور قليلة، والتى لو جرى الأخذ بها لاستطاع الوطن المصرى أن يخرج من عثرته بخسائر أقل بكثير مما دفع فيها، وقد جرى اختياره نائباً لرئيس الوزراء فى أول حكومة بعد رحيل الرئيس السابق، وحاول الرجل قصارى جهده أن يجمع شتات القوى السياسية المختلفة على قلب رجل واحد، لكنه تلقى صدى من بعضها ومراوغة من بعضها الآخر، وعقد الرجل سلسلة لقاءات متتالية يجمع فيها العقليات المصرية من جميع الأطياف السياسية، أملاً فى إنجاح الثورة والاتجاه نحو مستقبل أفضل حتى ترك الرجل منصبه طواعية قرب نهاية حكومة الدكتور «عصام شرف»، وأصبحنا منذ ذلك الوقت نستأثر بالأكثر من وقته فى مناسبات ثقافية وأكاديمية وسياسية، لعل أكثرها كان فى «الصالون الثقافى العربى»، الذى ينعقد بشكل دورى فى ضيافة المندوبية العراقية لدى «جامعة الدول العربية» برعاية السفير العراقى المثقف الدكتور «قيس العزاوى»، وهو نموذج آخر للفكر الرفيع امتد نشاطه ما بين العاصمة الفرنسية والعالم العربى، ويضم هذا الصالون كوكبة من أسماء مرموقة مثل «جابر عصفور» و«صلاح فضل» و«محمد الخولى» والفنان العراقى العالمى «نصير شمة»، وعدد من السفراء العرب المتميزين فى «القاهرة» مع عدد من رموز الفكر والأدب والفن، وينعقد هذا الصالون تحت الرئاسة الشرفية للمفكر القومى الدكتور «يحيى الجمل» الذى نتمنى له طول العمر واستمرار العطاء فقيهاً قانونياً وعالماً أكاديمياً، شغل لعدة سنوات منصب «المستشار الثقافى» لمصر فى «باريس»، فمرت عليه أجيال من أبناء مصر المرموقين فى المجالات المختلفة.. فليستمر عطاؤه كاتباً ومفكراً وابناً باراً لوطنٍ يمر بظروف قاسية ومرحلة صعبة تكاد تكون غير مسبوقة فى تاريخه الحديث!
Twitter: DrMostafaElFeky