شمن الأشياء القليلة التى حَظِىَ بها مواليد السبعينيات من أمثالى أنهم شهدوا الثمانينيات فى طفولتهم الواعية. فى الثمانينيات أحداث جسيمة سجلها التاريخ:
١- الفتنة الطائفية الدموية فى الزاوية الحمراء وغيرها من المناطق.
٢- سجن المعارضين.
٣- اغتيال السادات.
٤- محاولة قلب نظام الحكم.
٥- تولى حسنى مبارك الرئاسة.
٦- إعادة تشكيل تنظيم الجهاد بعد خروج الدفعة الأولى من السجن.
٧- بدء المواجهات فى الشوارع بينه وبين النظام من سنة ١٩٨٦.
٨- أولى التفجيرات الانتحارية ضد زكى بدر.
٩- بدء الاغتيالات المتبادلة فى أواخر الثمانينيات.
كل هذه الأحداث تستطيعين أن تعودى إليها فى الكتب، وأن تتخيلى بقدر ما أهميتها، حتى لو لم تكونى من مواليد السبعينيات. إنما لن تعيشيها. لن تعيشى مشاعرها. مخاوفها. لن تعيشى الإحساس بأن الدنيا قد تنقلب فى لحظة، وأن البلد التى تعيشين فيه -فى حالتى كانت أسيوط- قد تتحول من بلد هادئة إلى ساحة حرب، لا يفرق فيها الرصاص بين شخص مهنته ضابط أمن، ومواطنة تذهب لزيارة أختها التى أجرت عملية إزالة زائدة دودية فى مستشفى «المبرة». لن تعيشى هذا إلا لو كنتِ من مواليد السبعينيات.
كما لن تعيشى أبدا الأيام الأولى لحكم حسنى مبارك. جو التفاؤل بشخص يبدو بسيطا، متواضعا، يرتدى بِدَلًا تشبه ما قد يرتديه مواطن عادى يشترى من منتجات «المحلة». الفوز بكأس إفريقيا لأول مرة فى منافسة حقيقية (الفوزان السابقان كانا فى بطولة من ثلاث دول)، افتتاح الخط الأول لمترو الأنفاق، لتكون القاهرة أول عاصمة فى الشرق الأوسط وإفريقيا لديها هذه الخدمة، مشاريع إسكان الشباب فى ٦ أكتوبر.
لن تستطيعى أن تقارنى بين تلك الأيام الأولى والأيام الأولى لحكم «المتغطرسين» الإسلامجية. ستظلين دائما تقارنين الحكم الجديد بمبارك الآخر، الذى انتشر فى عهده الفساد، والذى يستعد لتوريث حكمه، والذى يزوِّر الانتخابات بطريقة فجة. ولن تفهمينا حين نقول لك إن هذه البداية للحكم الإسلامجى أسوأ ألف مرة من بداية حكم مبارك. ألف مرة. وأنها تنذر لو تركناها بعودة مصر إلى عهد ما قبل محمد على.
كما لن تشاهدى صحفيًّا شابًّا اسمه أيمن نور، ينشر تحقيقًا صحفيًّا «يكسّر الدنيا»، عن التعذيب فى السجون المصرية. ولن تشاهدى بعد ذلك لقطات «ممنتجة» لتحقيق معه، تفيد بأن الصور التى نشرها «مُفبرَكة». لن تشعرى بمدى الإعجاب به والاقتناع بأنه على حقّ وأن النظام كذَّاب. لن تشعرى بمدى التعاطف معه حين نُقل إلى المستشفى مُصابًا بأزمة قلبية عقب إذاعة الحوار الممنتج.
حين تشاهدينه الآن وهو يمالئ حكم المتغطرسين الفاشلين، لن تقارنيه بتلك الصورة التى نقلتُها فى الفقرة السابقة. ومتى؟ فى الثمانينيات، حين كان نظام مبارك فى أفضل أحواله. لاحظى أننى لا أنكر عليه هذه المعارضة، فقد عبَّرت عن مدى إعجابى به وقتها. لكننى أتعجب أن يتحول إلى «محلل»، مجرد بالونة فى حفل ميلاد دولة الطغيان الدينى. لن تقارنى بين الصورتين فتشعرى بمدى عمق الفجوة. ولن تقارنى بين الصورتين فتمحى تاريخه، وتدركى أنه -ربما- كان كاذبًا هناك أيضًا.
لن تتذكرى هذا كله وأنت تسمعين كلامه الفارغ عن الحرب بالإشاعات الاستخباراتية. لن تشعرى بالعار أنك يومًا ما ظننت أنه يعبِّر عن رؤية مختلفة للعالم وللسياسة. ولن تدركى، بالتالى، ما ندركه نحن من النفس الإنسانية وقدرتها على المراوغة، وقدرتها على الظهور بأكثر من وجه. لن تدركى لماذا لا نسلم لـ«قادة الثورة» القياد ونحن مغمضو الأعين، لأن الحياة علمتنا أكبر درس.. الشكّ.
ثم حين تستمعين إلى «المعتوه السياسى» الآخر، مجدى أحمد حسين، لن تتذكرى أن جريدته كانت تروِّج لنظام البشير فى السودان، وتقول إنه نموذج للحكم الإسلامجى الناجح الذى حقق للسودان اكتفاءً ذاتيًّا، ثم نفاجأ بانهيار العملة السودانية إلى واحد على ألف من قيمتها. لن تقولى لنفسك حين ترين وجهه «استر يا اللى بتستر». لن تسترجعى ذكريات الثمانينيات وترى نفس الغربان تنعق بمدح حكم الإخوان الإسلامجى.
إنك تعزين بعض مواقفنا إلى تقدم العمر. الشباب فى كل حقبة يفعلون ذلك. لكننى أعزوها إلى الحياة. إلى رؤية الأحوال المتقلبة. إلى القدرة على وضع المصاير إلى جانب البدايات.