ما زالت إجابة هذا السؤال غير محسومة، وما زال أبناء مصر حائرين بين الصفتين!
رسميًّا.. أنا مواطن. عمليًّا.. أنا زبون:
مواطن بحكم مشاعرى وبحكم ما هو مدوّن فى السجلات وفى بطاقة الرقم القومى.. شعورى بأنى مواطن عليه مسؤوليات تجاه وطنه وباقى المواطنين لم يُلْغِ شعورى بأنى زبون لا يُنتظر منه إلا الاعتراض على سوء الخدمة، حتى ييأس ويستسلم تمامًا للأمر الواقع.
تأملت حال المواطن المصرى، واكتشفت أن صفة الزبون بغيضة جدًّا فى غياب المنافسة التى تمثل الضمانة الأكبر لجودة المنتجات والخدمات.. ثارت فى رأسى هذه الأفكار عندما لاحظت تفاقم الأزمات المرتبطة بالطاقة فى صورها المختلفة.. الحكومة تعاملنا على أننا زبائن: ثلاثة أيام، ويصبح كل شىء على ما يرام، ستنتهى أزمة السولار تمامًا! ينتظر الزبون حتى تمر الأيام الثلاثة، وتحدث بالفعل انفراجة، ربما لمدة ساعة أو ساعات محدودة، ليعود الموقف إلى ما كان عليه، وتتكدس السيارات، وينفد الصبر.
يحدثك المسؤول عن وصول شحنات الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء، ويسجل التاريخ تطورًا عظيمًا فى علاقة الدولة بالزبون (المواطن سابقًا): لأول مرة فى التاريخ يعتذر مسؤول عن سوء الخدمة!! حدث هذا بالفعل من وزارة الكهرباء، وهى - بلا شك- حسنة لا يجب أن ننكرها.
هذا من جانب الحكومة، أما الإعلام التليفزيونى - الذى يعانى هو الآخر من تراجع معدلات مشاهدته بسبب انقطاع الكهرباء-، فقد استقر لديهم بالفعل أن المشاهد زبون، وأن من حق الزبون أن يحصل على احتياجاته من الكهرباء مهما زادت. نعم، اتفقت قنوات التأييد والمعارضة على أنه لا يجوز مطالبة الزبون بأى شىء لتخفيف معاناته ومعاناة الآخرين: «ماحدش يكلمنى عن ترشيد الطاقة»؛ أليس المواطن زبونًا؟ والزبون دائمًا على حق، ويستحق التدليل، حتى وإن تسبب تدليله فى هلاكه: فى الحَضّانات والمستشفيات والمصاعد و«الحارات السد»... لم أقصد أن أُذكّركم بالسد، أعنى سد إثيوبيا، فهذا أمر لا يليق بأى زبون أن يشغل نفسه به؛ على الدولة أن تُحطّمه حربيًّا، أو توقفه قانونيًّا، أو تُبْطِئه دبلوماسيًّا!!
لقد سئمت دور الزبون هذا، ولم أعد أطيق شعور المتفرج إزاء ما يحدث من أمور شديدة الخطورة كنقص الطاقة، ومصيرية كنقص المياه، وجوهرية كاشتعال الساحة الثقافية...
لم يعد يناسبنى -وغيرى كثيرون- أن تظل صفة المواطن معطلة فى بلدنا.. كم تحدثنا عن الديمقراطية، وأوضحنا أن أعظم ما يميزها هو مشاركة الجميع فى جميع مراحل اتخاذ القرار!! بالديمقراطية التى تقوم على التفكير الجماعى تصل المجتمعات المتحضرة إلى حلول أذكى كثيرًا من تلك المطروحة لأزمة السولار والكهرباء والماء والثقافة والصحة والمواصلات... يجب أن يدرك الإعلام أننا مواطنون لا زبائن، وأن بوسعنا أن نساهم بفاعلية فى ترشيد استهلاك الطاقة فى البيوت والمصانع والطرقات.
لم أعتبره تدخلاً فى شؤونى الشخصية ألا تلجأ الأسرة لتشغيل أكثر من جهاز تكييف، حتى فى تلك الليالى التى تشعر فيها أن الشمس لم تَغِبْ، وإنما مختبئة تحت سريرك!!
لو عدنا مواطنين، فسنكتشف أن هناك الكثير مما يمكن فعله لترشيد الطاقة دون تضحيات عظيمة، وسنكتشف حلولاً أذكى من حلول الحكومة فى أزمات الوقود.. لو خلعنا رداء الزبون، فستظهر عضلاتنا القوية وتجرى الدماء فى عروقنا لتصعد إلى عقولنا، فتدب فيها الحياة من جديد.
أشفق على مصر من قلة الحلول المطروحة لأزمة سدود المنبع، خصوصًا أن نعم الله لا تُعد ولا تُحصى.
سنويًّا تسقط على هضبة إثيوبيا ثمانمائة مليار متر مكعب من السيول والأمطار.. لا يُستغَل منها إلا العُشر أو يزيد قليلاً؛ أطلق لخيالى العنان، وأحلم بشق النيل الأخضر الذى ينضم إلى زميليه: الأزرق والأبيض.
المواطن أذكى عشر مرات من الزبون!