فى الأسابيع الأخيرة، اخترت أن أقدم للقارئ نماذج لثورات عالمية وثورات مضادة انقضّت عليها وقضت على أحلامها. فلأننا أصحاب ثورة عظيمة ألهمت العالم، فمن حقنا أن نحميها. ورغم أن المشهد المصرى حافل بعشرات الصراعات السياسية الدائرة وسط حالة من الصراخ الهيستيرى المتبادل فى لحظة فقدت فيها الأمة عقلها، إلا أن تلك القشرة من الضجيج الزاعق لا ينبغى أبدا أن تلهينا عما هو أخطر منها بكثير وهو بروز ملامح الثورة المضادة بقوة أكبر فى الشهور الأخيرة. والنوايا الحسنة لا تحمى الثورات وإنما يحميها تأمل تجارب الأمم الأخرى والوعى بما يدور حولنا. علينا أن نسأل مثلا ما هى الأدوات التى تستخدمها الثورات المضادة؟ وهل يوجد نمط ما، يتكرر فى محاولات الانقضاض على الثورات الشعبية؟ والنمط المتكرر هو مفهوم يقوم عليه علم السياسة أصلا. فلأنه علم لا يمكن فيه تكرار التجربة العلمية للتأكد من صحتها، كما فى حالة علم الكيمياء مثلا، فإن علم السياسة يقوم على مقارنة الحالات المختلفة بحثا عن نمط متكرر يمكن من خلاله الوصول لنتائج. فلأننا لا نستطيع مثلا تكرار غزو أفغانستان أو غزو العراق، يقوم الباحثون بدراسة أكثر من حالة غزو واحتلال بحثا عن النمط، ثم يخرجون بنتائج من نوع أن المتغير س والمتغير ص يتوافران على الأرجح بعد الاحتلال.
والحقيقة أن من يدرس تجارب الثورات المضادة يستطيع أن يضع يده على نمط متكرر فعلا، أى متغيرات بعينها تلازمها. ومن أخطر تلك المتغيرات وأهمها على الإطلاق انقسام القوى الثورية على نفسها، فهو قاسم مشترك فى نجاح كل الثورات المضادة. فالانقسام يفتح الباب على مصراعيه لقوى الثورة المضادة وللتدخل الأجنبى المناهض للثورة الشعبية التى قامت. وفى أغلب الثورات المضادة، كان الدور الجوهرى الذى يلعبه التدخل الأجنبى متغيرا متكررا يحركه عادة ما يمكن أن نطلق عليه «تهديد النموذج»، فلا يشترط أن تعادى الثورة القوى الخارجية حتى تقف ضدها. فلأن الثورة الفرنسية كانت ملهمة، فقد مثلت وقتها تهديدا للبلدان المجاورة لها من النمسا وبروسيا لإيطاليا، لأن مبادئها وحيويتها الملهمة للشعوب الأخرى كانت خطرا على الحكومات فى البلدان المجاورة، وهو ما دفع النمسا وبروسيا للدفع بقواتها داخل الحدود الفرنسية.
وفى حالتى جواتيمالا ونيكاراجوا، لم تكن أى من الثورتين معادية للولايات المتحدة، لكن الأخيرة اعتبرت أن قيام الديمقراطية والتنمية المستقلة معا كان سيحول هذه الثورة أو تلك لنموذج ملهم للشعوب المجاورة، مما يقوض النفوذ الأمريكى ويقضى على النخب الاقتصادية المرتبطة مصالحها بالمصالح الأمريكية. وفى أغلب الثورات المضادة، تخدم بعض قوى الثورة دون قصد قوى الثورة المضادة. حدث ذلك فى نيكاراجوا مثلا، حين أرادت بعض قوى الثورة القضاء على الساندنستا، التى تولت الحكم بعد الثورة، فلم يستفد من ذلك سوى قوى الثورة المضادة.
ومن المعالم المخيفة التى ترتبط أيضا بالثورات المضادة أنها عادة ما تنتهى نهاية دموية سواء فشلت أو نجحت. ففى حالة الثورة الفرنسية، فشلت الثورة المضادة ولكن بكلفة باهظة حيث قامت على مدار عامين (1792 – 1794)، حملة انطوت على مذابح جماعية ومحاصرة قرى بأكملها وحرقها إلى أن تم القضاء على الثورة المضادة نهائيا. وفى الحالات التى نجحت فيها الثورة المضادة، كحالتى جواتيمالا ونيكاراجوا فإنها فجرت حربا أهلية دموية دامت سنوات طويلة. ورغم أن الثورات المضادة عادة ما تتعهد بنظام ديمقراطى بعد نجاحها، فإنها تنتهى فى أغلب الحالات بإرساء نظام قمعى يتحالف مع قوى أجنبية تحميه مقابل التخلى عن أفكار مثل الاستقلال الوطنى والتنمية الاقتصادية المستقلة، فيا عشاق مصر، انتبهوا.. اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.