هل آفة حارتنا النسيان ـ كما يقول عمنا نجيب محفوظ ـ فقط؟.. أظن أن حارتنا تعانى من آفات كثيرة.. فعندما يكون الخطر محدقاً بحارتنا، ومعروف، تفصيلا، أبعاده وتداعياته.. وعندما تكثر التحذيرات حول الآثار المتوقعة لهذا الخطر، ويجتهد المتخصصون فى كيفية التعاطى مع الخطر على أكثر من صعيد.. فلا يستجيب أحد.. نحن إذن أمام كارثة بكل المقاييس.. إننى أتحدث عن مياه النيل التى تعنى وتساوى حياة المصريين.. هل بناء سد النهضة الذى شرعت إثيوبيا فى تشييده كان مفاجأة؟.. هل الأخطار التى ستترتب على تشغيله غير معروفة؟.. واقع الحال أن الأمر لم يكن سراً ولم يحدث بشكل مفاجئ، ويتم الإعداد له منذ عقود..
أتذكر أنه فى مايو 2010 (منذ ثلاث سنوات بالتمام والكمال)، كتبت مقالين فى «المصرى اليوم» كان عنوان الأول: مياه النيل وحياة المصريين، والثانى: مياه النيل.. ثلاث إشكاليات. وذلك تعليقاً على توقيع أربع دول من دول منابع النيل لاتفاقية، أطلق عليها «إطار عمل»، لتنظيم الاستفادة من الموارد المائية لنهر النيل فى غيبة مصر والسودان.. ومر المقال ـ آنذاك ـ مرور الكرام.. لم تتحرك مصر الرسمية.. ولكن الأمر أثار حفيظة «المهمومين» من الوطنيين المصريين.. فتبين بالبحث والدراسة ما يلى:
■ وجود خطر حقيقى على الأمن القومى المصرى بشكل عام والمائى بشكل خاص.
وينطلق هذا الخوف من تحذيرات أُطلقت ودراسات أُجريت مبكرا فى هذا المقام.. ونشير هنا إلى التحذير الذى أطلقه بطرس غالى، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، فى 1979 من أن «المنافسة على مياه النيل قد تصل إلى حد الصراع الذى قد يؤدى إلى وقوع حروب المياه».. كما نشير إلى ما قاله العالم الراحل رشدى سعيد فى ندوة عقدت فى عام 1979 حول تنمية الأراضى الزراعية والصحراء قال فيها نصاً: «إن الماء يمثل مورداً حرجاً فى مصر، فهو يشكل مع الطاقة عاملاً كابحاً رئيسياً فى التنمية المستقبلية لمصر. وإذا كان لمصر والسودان المنتفعين الأساسيين بالنيل أن يواصلا خططهما الوطنية بأى درجة من النجاح، فإنه لن يكون هناك ماء كافٍ متاح لتلبية الاحتياجات المتصاعدة».. وأخذ يُعدد الأسباب.
بالإضافة إلى ما سبق، تعددت الدراسات العلمية منذ نهاية السبعينيات حول مستقبل مياه النيل.. نشير إلى بعضها كما يلى:
دراسة جون واتر برى (جامعة برنستون) المرجعية المعنونة: «هيدروبوليتيكا وادى النيل»(1979)، وبحث رشدى سعيد «مستقبل الاستفادة من مياه النيل» (1988)، وأعمال الندوة التى نظمها مركز البحوث العربية حول «أزمة مياه النيل» (1988)، وكتاب مجدى صبحى «مشكلة المياه فى المنطقة والمفاوضات متعددة الأطراف» (1992)، كتاب محمود أبوزيد «المياه مصدر للتوتر فى القرن 21» (1998)، وكتاب عبدالملك عودة «السياسة المصرية ومياه النيل فى القرن العشرين» (1999).. لقد طرح المتخصصون أسئلة مبكرة وحاولوا أن يجيبوا إجابات مبتكرة.. وهنا نشير إلى الدراسة المرجعية المهمة لـ«جون واتر برى» التى كان عنوانها يحمل سؤالاً واضحاً ومباشراً «هل تتحدى دول أعالى النيل الوضع القائم؟» (1996).
الخلاصة.. كان من المفترض أن السلطة الجديدة بعد 25 يناير تتعاطى مع الملفات المؤجلة على مدى عقود بشكل مختلف.. ولكن يبدو أن آفة حارتنا ليست فقط النسيان وإنما أيضا: غياب الإرادة السياسية، عدم القدرة على المبادرة، غياب الاستراتيجيات الوطنية الشاملة فيما يتعلق بمجالاتنا الحيوية، وغياب الاستراتيجيات التنموية، وعدم الاستفادة بالجهد العلمى المبذول، وعدم الاستعانة بالخبراء فى هذا المجال... إلخ.