■ قبل عشرين عاماً وضعت أول كتاب لى، كان عنوانه «أيام سليم الأول فى مصر»، تناولت فيه تفاصيل ما قام به سليم داخل مصر خلال الشهور التى أقام فيها هنا، وكان ذلك إثر غزو مصر وإسقاط دولتها واحتلالها.. كان دافعى إلى ذلك عدة أشياء كان بينها أن المبررات التى استخدمها سليم لغزو مصر، عادت لتظهر من جديد مع بعض التنظيمات الدينية فى مصر، مطلع التسعينيات، واليوم أتذكر سليم الأول لأن كثيراً مما قام به فى عام 1518 يحدث بيننا الآن.
قام سليم بإزاحة النخبة المصرية الفنية والإبداعية فى مختلف المجالات، حيث جمع شيوخ الطوائف والمهن، فضلاً عن أفضل المهنيين فى مختلف المجالات، وأخذهم معه إلى الآستانة، مفرغاً بذلك مصر من أفضل كوادرها، حتى إن ابن إياس تحدث بحزن عن انهيار بعض المهن بسبب ذلك، كانت حجة سليم الأول أنه يريد منهم بناء الآستانة وتطويرها على غرار القاهرة، ولم يسمح لهم بالعودة ثانية إلى مصر.. ولما ألحوا فى الطلب سمح لهم بالعودة، لكنه أرسل من قام بتصفيتهم فى الطريق، أى ذبحهم قبل الوصول.
■ بقى سليم الأول مكروهاً فى الذاكرة المصرية، يكفى أنه قام بشنق سلطان مصر العادل طومانباى على باب زويلة، لأنه تزعم المقاومة، دفاعاً عن استقلال مصر، بمساندة الشيخ أبوالسعود الجارحى، وجاءت أحداث إسطنبول مطلع هذا الأسبوع لتكتشف أن الأتراك أيضاً لا يحبون سليم الأول مثلنا.
■ الآن تتم إزاحة النخبة المصرية، فى مختلف المجالات، بدعوى تغيير القيادات، حدث ذلك بالنسبة للصحافة القومية، وبقرار واحد أزيح 55 رئيس تحرير ثم أزيح جيل بأكمله من الصحفيين والصحفيات بدعوى بلوغ سن الستين وأزيح فى الطريق عدد من كبار الكتاب بدعوى السن، وتم استدعاء بدلاء لهم من الجماعة الحاكمة وبينهم من لم يضبط متلبساً - من قبل - بمحاولة الكتابة وبينهم من جاوز سن الإحالة إلى المعاش، وأبناء المهنة يعرفون جيداً أن تكوين محقق صحفى أو محاور متميز ذى خبرة يقتضى سنوات طوال، وكانت النتيجة لكل ذلك أن تراجع توزيع معظم الصحف القومية وزادت فيها الأخطاء المهنية عن ذى قبل، ولكن كل هذا لا يهم لديهم، المهم عندهم إزاحة أجيال ومجموعات لتمكين أفراد من العشيرة.
■ ما جرى فى المؤسسات القومية جرى فى عدة قطاعات بالدولة. فى المخابرات العامة أحيل كثيرون للاستيداع وبينهم من لم يبلغ الخامسة والخمسين من العمر، وبالتأكيد فيهم خبرات وكفاءات متميزة، وتأمل ما يجرى فى المؤسسات الثقافية الرسمية، رغم أن كل قيادات هذه المؤسسات تم اختيارهم بعد ثورة 25 يناير، وأمامنا المذبحة التى يجرى التهيئة لها فى القضاء، لتتم إزاحة 3650 قاضياً، بدعوى بلوغ السن.. وفى الاتحاد الأوروبى الآن نقاش جاد لمد سن المعاش إلى 65 سنة فى كل الوظائف، لأن الإنسان فى ظل المستوى الصحى والتغذية التى يتلقاها يكون قادراً على العمل والعطاء بكفاءة تامة بعد سن الستين.. ونحن هنا نريد الإطاحة بالجميع، وتفريغ مصر من كوادرها المتميزة لتبقى خاوية، فيشغلها المتأخونون وحملة المباخر للحكام الجدد.. كان سليم الأول يسعى إلى عثمنة مصر والمصريين، حتى إن مصر بلد العلم والعلماء فى العالم الإسلامى كان يأتيها قاضى القضاة من العاصمة العثمانية، لأن السلطان لم يكن يحب المصريين ولا يثق فيهم، وسلطان هذا الزمان لا يثق فى غير الأهل والعشيرة ومن يتزلف إليهم قربى، فلا يكفى لديهم أن تكون مصرياً ولا أن تمتلك الكفاءة المهنية، المهم أن تكون من الأهل والعشيرة أو تبدى رغبة واستعداداً لأن تكون من العشيرة.
ما بين العثمنة والأخونة عدة قرون، ولا يدرك كثيرون أن محاولة بناء الدولة المصرية الحديثة على مدى قرنين، لم تكن سوى محاولة للخروج من العثمنة، وأزعم أننا لم نخرج منها تماماً، فمازالت بعض رواسبها وكوارثها تعشش فينا، وإذا بنا ننكس ونعود إليها ثانية، هذه المرة باسم الأخونة وتحت مبدأ السمع والطاعة للأهل وللعشيرة، ولذا لا غرابة أن يكون هناك تحالف بين من أطلقت عليهم قبل عشرين عاماً «العثمانيين الجدد» ودعاة الأخونة، مع العثمانيين أو عثمنة مصر تم إهدار الدولة المصرية وإفقادها السيادة تماماً وإزاحة العنصر المصرى تحت مسميات عديدة وتتريك الوظائف والمواقع القيادية، وهنا نحن نجد الأخونة تفعل بمصر ذلك، الشىء، ونلمح تراجعاً على جميع المستويات، يكفى العجز عن إدارة علاقة جيدة مع إثيوبيا ومع محيطنا الأفريقى عموماً، وبدأ خلق أساطير وأكاذيب من عينة نبوءة «محمد الثالث» لتبرير وتمرير الأخونة.
■ بقى القول إن سليم الأول حين غزا مصر أطلق على عمليته «فتح مصر»، وأطلق الإخوان على عملية التمكين والأخونة «فتح مصر».