لما نزل الووكمان جديد واشتريت واحدا ورجعت على البيت، كان والدى واقف فى المطبخ بيتكلم مع والدتى وهى بتعمل حاجة. وأول ما وريتهم الووكمان والدى جربه، حط السماعات فى ودانه، وعلى الفور رفع عينيه وبص للسقف. وإحنا نكلمه وهو مش سامعنا، عادى، بس حتى مش شايفنا واحنا بنكلمه، ليه، لأنه باصص للسقف.
فيه حاجة كده فى الدنيا أقنعتنا بأن النظر إلى السقف مرتبط بالفنون، بالموسيقى، بالتفكير الإبداعى، الحاجة دى أيا ما كانت مسؤولة عن كتير من مشكلاتنا فى الإنتاج الإبداعى والفكرى. بجد.
حالة النظر إلى السقف حالة تأمل. بس مش أى نوع من التأمل. دا تأمل فى اللا شىء، أو، للدقة، فى أقرب شىء قدامنا إلى اللا شىء. حاجة تشبه النظر إلى السماء فى العصور القديمة. يعنى الحقيقة إن السقف مجرد حاجة جات وقفت بيننا وبين «السماء»، بيننا وبين «الفضاء» المجهول.
اقتصار فكرتنا عن الإنتاج الإبداعى على «الفضاء» يضعنا فى أسفل مراتب التفكير الإبداعى. أعلى منه درجة التأمل فى «شىء»، كأن تنظرى إلى شىء ما أمامك وتمعنى فيه النظر، بينما تتركين أفكارك تعمل. المشكلة فى هذين النوعين هو سيطرة الوعى، مش اللا وعى، على العملية الإبداعية. ودا مهم، أقصد الوعى مهم، بس مهم فى مرحلة تانية. فى مرحلة تصنيف الأفكار بعد وجودها، والتفكر فيها وتصفيتها.
إنما مافيش أفكار لا فى السقف ولا فى الفضاء ولا فى الصورة اللى «مش فى البؤرة».
لما باسمع موسيقى عربية، أو أقرأ شعرا، أو رواية، أو أتفرج على عرض راقص، دايما ييجى لى الإحساس دا. إن مبدعة العمل كانت باصة للسقف. بتستدعى ما تعرفه، وما نعرفه، وتعمل منهم توليفة جديدة. ممكن تكون حلوة. بس مش أصيلة (يعنى دايما تشبه حاجات سابقة). ومش حقيقية.
يا صديقتى.. مافيش حاجة فوق، ولا فى الحيطة اللى قدامك. الحاجات دى حاجات مسطحة. ومن غير ما تحسى بتخليكى تطلعى بأفكار مسطحة.
نفسى لما أسمع موسيقى عربية أو أقرأ شعر أحس بإنسانة قدامى. إنسانة بتدوب من الحب أو بتنفجر من الغضب. إنسانة أدركت للتو أنها كانت «ضحية» خيانة، أو إنسانة فهمت يعنى إيه خيانة، أو -يا سلام لو- إنسانة أدركت للتو فضل الخيانة عليها وعلى البشرية، يعنى شافت الإيجابى، زى ما بتشوف السلبى، حتى فى حاجة زى الخيانة. علشان ماتغرقش وتغرقنا فى الشعور بالصعبنة. وعلشان تفتح قدامنا آفاق جديدة لرؤية الدنيا. هو دا الفن. إنسانة بتجرى تستخبى فى حتة ضلة من الحر، أو بتجرى تلحق مكان قبل ما يقفل. إنسانة جاى على بالها تاكل كشرى، أو بتاكل كشرى، أو جاى على بالها تعمل سكس، أو بتعمل. إنسانة جاى على بالها تاخد حاجة حلوة لزملائها فى الشغل، أو خدت لهم، أو جاى على بالها تكب الزبالة قدام بيت جيرانها، أو لسه يا دوبك عاملة كده ومبسوطة، أو ندمانة، أو مرتاحة. مش دايما دايما إنسانة فى المنطقة الوسطى، «المستقيمة»، المأمونة. المنطقة دى تنفع فى حاجات كتير. بس الإبداع الفنى مش واحد منها.
يعنى نفسى أحس إنسانة جسمها بيتحرك مع مشاعرها، بيتحرك على إيقاع معين، مش إنسانة قاعدة على كرسى مسطح وتنظر إلى مسطح.
أبدعى وأنت ترقصين، مش رقص بلدى وبس، لا، كل حاجة. دعى جسمك يحس بإيقاعات الكون المختلفة. بإيقاعات مشاعر أحس بها أناس يعيشون بعيدا عنك، لكنهم بشر، زيك زيهم. وقدروا يسجلوها فى صيغة مسموعة. أبدعى وأنت تصفقين، وأنت تقفزين حماسا، أو عزما. أبدعى وأنت تلكمين وسادة ملاكمة، وأنت عائدة من مشاجرة، وأنت تجهزين البيت انتظارا لضيوف أعزاء. أبدعى فى كل النشاطات الإنسانية التى تعرفينها. خلينا نحس إننا بشر. مش فازات ورد صناعى.
قبل ما أنسى. لما تسمعى موسيقى ما تبصيش للسقف. هزى جسمك وحسى بيها:)