على مدار العام الماضى، ومنذ تولى الرئيس محمد مرسى مقاليد الحكم والإدارة فى الدولة فى الثلاثين من شهر يونيو عام 2012، حرصت جماعة الإخوان المسلمين، وحزبها العلنى «الحرية والعدالة»، ورموز وقيادات هذه الجماعة، على إنكار علاقتهم بالأداء المالى والاقتصادى السيئ لحكومة «هشام قنديل»، تارة بحجة أن أعضاء حكومته ليسوا جميعا من الإخوان المسلمين، وتارة أخرى بالزعم بأن الموازنة المالية لعام 2012/2013 هى من بنات أفكار المجلس العسكرى السابق وحكومة الدكتور كمال الجنزورى.
وبرغم عدم صحة هذه المبررات والأعذار، فى مواجهة حالة فشل كاملة فى أداء حكومة هشام قنديل، التى أتى بها الرئيس محمد مرسى، وتمسك بها بعناد يكاد يماثل ويشابه عناد الرئيس المسجون «محمد حسنى مبارك»، فإننا سوف نذهب إلى القبول الشكلى بهذه الأعذار والمبررات، وسوف نكتفى بمشروع الموازنة المقدم من حكومة الإخوان المسلمين للعام المالى 2013/2014، لتصبح هى الاختبار الحقيقى لقياس ثلاثة عناصر فى تقييم أداء الدكتور محمد مرسى ورئيس وزرائه وهى:
الأول: نمط التحيزات الاجتماعية التى عبرت عنها الموازنة العامة الجديدة.
الثانى: رؤيتهم تجاه إدارة المالية العامة والسياسة المالية ومعالجة اختلالاتها الهيكلية.
الثالث: درجة كفاءتهم المهنية والسياسية فى إدارة هذه السياسة المالية (إنفاقا وإيرادا).
فالحقيقة أن المتأمل «لبناء» مشروع الموازنة العامة الجديدة من ناحية، وطريقة إعداد بياناتها وتقديراتها «كأهداف» مالية، سواء فى مجال الإنفاق العام، أو فى مجال الحصول على الإيرادات العامة، خصوصا الإيرادات الضريبية، يكتشف أننا بصدد الطريقة ذاتها التى كانت تدار بها السياسة المالية والموازنة العامة طوال الثلاثين عاما الماضية.
والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن هو: كيف؟
نستطيع أن نشير إلى أن أهداف وإجراءات الموازنة العامة الجديدة لعام 2013/2014 سوف تعمق الأزمة الاقتصادية والمالية، وتزيد من التأثيرات السلبية على مستوى معيشة المواطنين الفقراء ومحدودى الدخل والطبقة المتوسطة من عدة زوايا، أهمها:
1 - استمرار اختلال البناء الهيكلى فى الموازنة العامة المصرية.
2 - تعاظم العجز فى الموازنة، وضعف وسائل معالجته.
3 - زيادة الاقتراض الداخلى والخارجى ومخاطره.
4 - التحيزات الاجتماعية للأغنياء.
دعونا نبدأ بالبداية.
أولا: استمرار اختلال البناء الهيكلى فى الموازنة العامة المصرية.
يتمثل هذا الاختلال الذى استمر منذ عام 1981، وازداد أثره السيئ بعد تعديل قانون الموازنة عام 2005، وتقديم وزير المالية الأسبق يوسف بطرس غالى موازنته الأولى فى العام 2005/2006، ويتجسد هذا الاختلال فى العناصر التالية:
1- استمرار الوضع الشاذ والاستثنائى الذى بدأ منذ عام 1980/1981 باستبعاد الهيئات الاقتصادية وشركات القطاع العام والأعمال العام والشركات القابضة من حسابات ومكونات الموازنة العامة للدولة، والذى أدى إلى حدوث خطيئتين اقتصاديتين وماليتين كبيرتين هما:
الأولى: إخراج كميات مالية هائلة من رقابة وتقدير وسياسات صانع وراسم السياسة الاقتصادية المصرية، بما لذلك من أثر سلبى وانعدام قدرته على التنبؤ والتحسب لحركة هذه الكميات المالية فى الأسواق المحلية أو من خلال الاستيراد من الخارج، وبالتالى ضعف قدرته على وقف الميول التضخمية فى الاقتصاد من ناحية ولجم التوسع الاستيرادى لهذه الهيئات من ناحية أخرى.
الثانية: تحول هذه الهيئات الاقتصادية- خصوصا تلك ذات الفوائض المالية الكبيرة- إلى إقطاعيات خاصة لمن يديرها، مثل هيئة البترول وهيئة قناة السويس والبنك المركزى والبنوك الحكومية التابعة، فزاد فيها الفساد وانتشر، كما ضعفت عمليات الرقابة المزدوجة من وزارة المالية والجهاز المركزى للمحاسبات، كما أدى ذلك إلى تحول الكثير منها إلى عبء على الخزانة العامة والانتقال من حالة الفائض إلى حالة الخسارة مثل هيئة السكك الحديدية واتحاد الإذاعة والتليفزيون وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وهيئة التعمير والتنمية الزراعية وغيرها كثير.
ومن شأن استمرار بقاء هذه الهيئات الاقتصادية خارج الموازنة العامة للدولة أن يؤدى إلى أضرار متعددة وغل يد راسم السياسة المالية والاقتصادية فى وقف الميول التضخمية فى الاقتصاد المصرى.
2 - مع تقلص دور الدولة الإنتاجى منذ عام 1991، وتنفيذ برنامج بيع الأصول العامة (الخصخصة) وبيع المصانع، ضعفت موارد الدولة الأخرى، وتكاد تنحصر فعليا فى الإيرادات الضريبية التى باتت تشكل حوالى 75% من إجمالى إيرادات الموازنة العامة لعام 2013/2014، ومن شأن إصرار المجموعة الإخوانية الحاكمة على معاداة فكرة الدور الإنتاجى للدولة والقطاع العام، من منطلق أيديولوجى أعمى، أن يؤدى إلى إضعاف القدرات الاقتصادية الشاملة للاقتصاد المصرى ويعرضه للانكشاف أمام مجموعات من السماسرة العرب من أصحاب الفوائض النفطية، ومن يدرس تجارب التنمية الحقيقية فى دول جنوب شرق آسيا واليابان وماليزيا، سوف يكتشف أن دور الدولة الإنتاجى كان حاسما فى إحداث التطور والتنمية، ومن ثم فإن استمرار تآكل «الإيرادات الإنتاجية» للدولة، واستمرار دورها كسمسار أراض وبيع شركات، وجباية ضريبية، يؤدى إلى أوجه الخلل فى السياسة المالية والاقتصادية المصرية التى نعيشها منذ عام 1991، والمؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة، وممثلها سوف تستمر فى هذه السياسة الضارة.
3 - أدى توافق حكومة الدكتور أحمد نظيف ووزير ماليته يوسف بطرس غالى، منذ عام 2001 مع بعثات صندوق النقد الدولى، على «إعادة تصنيف وتبويب الموازنة العامة للدولة المصرية» إلى إصدار قانون الموازنة الجديد رقم (87) لسنة 2005، وإعداد الموازنة العامة لعام 2005/2006 وفقا لها، الذى أظهر لأول مرة فى تاريخ الموازنة العامة المصرية ما يسمى «دعم المشتقات البترولية» بقيمة 41.2 مليار جنيه، بما أدى إليه من تشوهات مالية عميقة فى بنية الإدارة المالية الحكومية، فمن ناحية تفاقم وضع المديونية فى هيئة البترول ومتأخراتها الضريبية، ومن ناحية أخرى تفاقم العجز الحسابى فى بقية قطاعات الدولة والجهاز الحكومى (قطاعات الكهرباء- الجهاز الحكومى.. إلخ)، وهى مسألة خطيرة يدهشنى أن من أداروا السياسة المالية لمصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، لم يتوقفوا عندها طويلا، ويتم تنظيم ورش عمل جادة من المتخصصين والخبراء- بعيدا عن وصاية صندوق النقد الدولى- لإعادة تقييم هذه التجربة الضارة ماليا واقتصاديا منذ عام 2005.
4 - كما أدى هذا التوافق مع بعثات صندوق النقد الدولى إلى إصدار قانون الموازنة الجديد المشار إليه (رقم 87 لسنة 2005) الذى وضع فى بعض مواده ما يسلب المجلس التشريعى سلطته الرقابية الحقيقية، فقد نصت المادة (24) من هذا القانون على سلطة وزير المالية أو من يفوضه فى (النقل داخل اعتمادات الباب الواحد لكل جهة، أو النقل من باب فى جهة إلى نفس الباب فى جهة أخرى)، بما يخل واقعيا بسلطة المجلس التشريعى فى الرقابة على التصرفات المالية للسلطة التنفيذية، خاصة إذا عرفنا أن مجمل هذه التحركات فى الأبواب قد يصل إلى 10% إلى 15% سنويا، علما بأن الحكومات المتعاقبة كانت قبل صدور هذا القانون تقوم بعمليات تهريب الاعتمادات والتحايل على المجلس التشريعى من خلال تضمين قانون إصدار الموازنة مواد تسمى «التأشيرات العامة» تحايلا على المجلس التشريعى، فإذا بها بعد صدور هذا القانون يصبح أمر النقل فى الاعتمادات من سلطات وزير المالية دون الرجوع إلى مجلس النواب ضاربا بذلك عرض الحائط بالدستور.
5 - يضاف إلى ذلك ما نصت عليه المادة (10) من القانون المسكون بالشياطين هذا بأنه (يجوز لاعتبارات خاصة تقتضيها المصلحة العامة للبلاد، أن تدرج فى أبواب الاستخدامات بالموازنة العامة للدولة اعتمادات إجمالية لبعض الجهات أو الاحتياطيات العامة دون التقيد بالتصنيفات الاقتصادية لهذه الأبواب).
وهنا نتساءل: من يقدر هذه الاعتبارات؟ ومن يقدر المصلحة العامة للبلاد؟ لا شك بالطبع أنها الحكومة ووزير ماليتها، وقد كان باب «الاعتمادات الإجمالية» دائما ومنذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضى بمثابة «بوابة إبليس» للفساد المالى الذى كانت تمارسه الحكومات المصرية فى عهد الرئيس المسجون محمد حسنى مبارك، حينما نما هذا الباب الخلفى الذى كانت اعتماداته تصل فى كثير من السنوات إلى 16.0 مليار جنيه، يذهب معظمها من خلف ظهر المجلس التشريعى لتعزز مصروفات ومكافآت لقيادات الشرطة والقوات المسلحة.
وقد زاد الأمر سوءا نص الفقرة الثانية من المادة العاشرة من القانون (87) لسنة 2005 حيث نص على (ويراعى أن ما يدرج كاعتمادات إجمالية للجهة الواحدة لا يتجاوز 20% من إجمالى الاعتمادات المدرجة لإنفاق هذه الجهة بالموازنة العامة للدولة، ويستثنى من ذلك مجلس الشعب ومجلس الشورى والجهاز المركزى للمحاسبات وجهاز المدعى الاشتراكى والقوات المسلحة والهيئات القضائية والجهات المعاونة لها).
6 - هكذا إفساد منظم ورشاوى مالية للأجهزة الرقابية والتشريعية فى الدولة، واسترضاء لأجهزة القوة فى الدولة مثل القوات المسلحة والهيئات القضائية.
7 - فهل هذه الاختلالات الهيكلية واستمرارها تشير إلى أن هناك رؤية جديدة لإدارة السياسة المالية والاقتصادية فى البلاد. الإجابة واضحة، وللحديث بقية.