
أساس الفكرة مأساة شخصية: محمد، شقيق المخرجة، أصيب بمرض الكلى فى سن الثانية والأربعين، هو زوج وأب لولدين، صعيدى منياوى محبوب من الجميع، مثل آلاف المصريين سيجد نفسه مضطراً الى الخضوع لجلسات غسيل الكلى، تضطرب كل وظائف الجسد تقريباً، لا حل إلا بنقل الكلى من متبرع، ولكنه يرفض الفكرة، يستقبل موتاً منتظراً ومعلناً بهدوء وتأمل وصبر.
ولكن المأساة تدفع المخرجة الى القيام برحلة أوسع تمتزج فيها آلام أخيها بآلام المصريين الذين يعانون مرض الفشل الكلوى، ننتقل من شاب مريض الى وطن مريض، من جلسات لتنقية الجسد الملوث الى وقفات لمنع الصرف فى النهر العليل، يأتلف الخاص والعام ليصنعا فيلماً يستحق المشاهدة والمناقشة، ويستحق العرض فى الفضائيات التى تكدست على شاشتها الأفلام الروائية المكررة والإعلانات السقيمة والعشوائية.
الصراع هو محور الدراما، وبناء الفيلم يسير فى خطين: شاب يصارع الموت وينتظره فى هدوء وسط ابنيه وأقاربه، ومجتمع مريض يحاول أن يسترد صحته وسط أجواء ملوثة سواء قبل أو بعد الثورة، مأساة محمد هى جزء من مأساة البيئة والنيل، وقائع الموت المعلن ستكرر نفسها طالما ظلت أسبابها موجودة، هكذا يقول الفيلم ببلاغة مؤثرة.
يبدأ الفيلم بمركب يعبر النيل سبب الحياة، وسبب الموت بعد تلوثه، عند مقبرة محمد فتحى تتجمع أسرته، نشاهد شقيقته المخرجة تقرأ القرآن، ولداه محمود وزياد يقرآن الفاتحة، زوجته ترتدى الملابس السوداء، حارسة المقبرة تثرثر معلّقة على الزهور الحمراء فوق الشجيرات القليلة الخضراء، تراها تجسيداً لروح المتوفى، مشهد البداية يذكرك باستهلال فيلم روائى، يسود اللون الأزرق فى البداية، ثم يظهر الأخضر والأصفر، ننتقل الى أحد المعابد التى كان يحلم محمد بزيارتها، على شريط الصوت نسمع صوت المخرجة/ الأخت، وهى ترى فى المعبد تجسيداً لحب إيزيس لأوزريس، فليكن فيلمها تجميعاً لأشلاء وبقايا الأخ الغائب، مثلما فعلت إيزيس فى أسطورتها الشهيرة مع أوزريس.
يظهر محمد لأول مرة بجانب ابنه محمود داخل أحد المراكب النيلية، الابن أصغر سناً، يتكلم محمد لأول مرة عن مضاعفات الفشل الكلوى الذى لا يأتى ابداً بمفرده، تصحبه دوماً حفنة من الأمراض مثل الأنيميا وهشاشة العظام، يتكرر طوال الفيلم تصوير محمد فى مناطق مختلفة على النيل (كازينو/ مركب/ شاطئ)، معظم المشاهد فى لحظات الغروب، يبدو الشاب نحيفاً هزيلاً بعد أن كان بديناً، من الواضح أنه أقرب الى الكآبة، يحلم بأن يطير مثل الحمام، ولكن اشياء ثقيلة تربطه بالأرض، يصرّ على مسح صور التقطها ابنه لعملية الغسيل الكلوى، لا يريد أن يترك لابنه صورة تدفعه الى البكاء.
تمنح اللقطات المصورة للمريض واسرته الفيلم حيوية وتلقائية، الشاب بسيط ولديه قبول، ولهجته المنياوية تدخله القلوب، والمخرجة/ الأخت تظهر بصورتها أو بصوتها لتكمل رسم الحكاية، تتحدث مع سائق تاكسى عجوز عن أخيها الذى انتقل للعلاج فى مستشفى خاص فى القاهرة، بعد أن هدموا وحدة الغسيل فى شمال الصعيد، جلسات غسيل للكلى كل يومين، التكلفة 275 جنيها فى المرّة، وقبلها تحاليل معقدة بأكثر من 1500 جنيه، السائق، الذى يتعثّر وسط الأمطار بدون مسّاحات، يربط بين انتشار مرضى الفشل الكلوى ومؤامرات إسرائيل، المخرجة تدين المسؤولين والحكام وليس إسرائيل، يظهر محمد مبتسماً للكاميرا، تصحبه أخته فى تاكسى آخر وسط المياه الى تغسل العاصمة الملوثة.
يستمر تدفق المواد المصوّرة لمحمد، المخرجة القادمة من باريس تتحدث معه بنفس اللهجة المنياوية العذبة، راندا ابنة شقيقته الشابة تصطحب خالها لشراء الزلابيا وبلح الشام، يصر على أن يدفع ثمن الحلوى، هالة الشقيقة الثانية متحمسة لفكرة نقل الكلى، محمود ابنه يرى أن مبلغ 100 ألف جنيه لا يساوى شيئاً فى مقابل أن يسترد الأب صحته، المخرجة تزيد من الضغط فى اتجاه البحث عن متبرع" حتى لو اضطرّينا نستلف .. ح نستلف".
لا مثيل لهذه اللقطات الحية فى تأثيرها، خصوصاً فى إبراز تعبيرات الوجوه والحركات والتعبيرات العفوية، وفى الإنتقالات الزمانية والمكانية، الكاميرا الذكية لا تكتفى بالشخصيات، ولكنها ترصد طائراً يحاول تسلق جدار بلا جدوى، هدهد ينقر الأرض بإصرار، قطة صغيرة تداعب أقدام محمد وهو ممدد على أرض الصالة، طائرة ورقيه هائمة فى الفضاء، الصورة ثرية للغاية، ولكن محمد متردد فى فكرة النقل، يخشى أن يصاب صاحب الكلية نفسه بالفشل بعد نقلها، لا يريد أن يقابل الله بذنب إنسان لايعرفه، يقول إنه منقسم الى نصفين، نصف يريد العملية، ونصف يرفضها.
محمد يقدّم هنا بلا رتوش، هو ابن مجتمعه، رغم أنه موظف (انقطع عن العمل بسبب المرض)،ورغم أنه تخرج فى الجامعة، إلا أنه يتقبل مرضه بما يقترب من التسليم التام، يبدو كما لو كان أباً للجميع، يصبر على آلام الغسيل رغم تأثر ابنه الى حد البكاء، ولكنه ايضاً عاشق للحياة، يغنى فى جلسة خاصة مع المطرب الذى يستعيد روائع زكريا أحمد فى أحد أفضل مشاهد الفيلم (كان الأجدر بأن يكون مشهد النهاية).
نقلاً عن "عين على السينما"