قبل أن أنصرف قلت له أوصنى يا برما، فقال: الكُتاب أمثالك وحدهم يعرفون أن الأفكار فى كل مكان ما عدا غرفة المكتب، قلت له: أكل العيش صعب، فقال: فعلا ولكن لتعلم أن الشخص الوحيد فى العالم الذى «يأكل عيش» بالضبط فى مكان «أكل العيش» هو طبيب الأسنان.
قلت له كلامك ساخر يشبه كلام التنمية الذاتية وطبطبة الهروب من نصف الكوب الفارغ، فابتسم قائلا: بالمناسبة نظرية تأمل نصف الكوب «المليان» لا تصلح أبدا كعلاج لمأساة «البكاء على اللبن المسكوب».
قلت له: هذه فذلكة، فقال: بالعكس الفكاكة بهجة المغفلين. وأنا أتفادى الفذلكة بقوة، لأن كثرتها تؤدى إلى حدوث تسلخات فى المخ، لا شىء أجمل من تأمل القَدَر وتجنب تشريحه بالفلسفة، لكن هذا لا يمنع إيمانى بأنه لو كانت الفنانة منى جبر قد توفيت فى أثناء الولادة ضمن أحداث فيلم الحفيد لحرمت مصر كلها من أغنية «السبوع» الوحيدة التى تمتلكها.
قلت له: الإسلام يطالبنا أصلا بالإيمان المطلق بالقدر، فقال برما: علشان تكون بنى آدم مسلم لا بد فى البداية أن تكون بنى آدم أصلا، ربنا يستر على الإسلام فنظام مبارك جعل بعض الناس يرتمون فى حضن الدين، والنظام الجديد سيجعل بعض الناس يهربون منه.
قلت له: زِدْنى فى الكلام عن الإيمان، قال برما: «ربنا لا تُزِغْ قلوبنا بعد إذ هديتنا» أى أنه صاحب الفضل فى المرتين، فى (هديتنا) وفى (لا تُزِغْ)، فبالراحة على نفسك وأَسْلِم إليه قلبك فى الحالتين، وعندما تقول الحمد لله فلتجعل الرضا كتفه بكتف طمعك فى الزيادة، ماتقولش «اللهم دمها نعمة واحفظها من الزوال».. قل «اللهم دمها نعمة وزدها».. فين الأدب لما تحسس ربنا إنك مستغنِى ومش عايز تانى؟ وضَعْ فى بالك أنك كلما آمنت أنك فقير كلما كنت مستحقا للصدقة من بحر الصدقات الأعظم، ولتعلم أنك لا تبحث عن رزقك بالهمة نفسها التى يبحث بها رزقك عنك، وهذا كلام غرضه الحثّ على الخلطة السحرية (الطمأنينة والسعى).
قلت له: يا لك من خبير يا برما، فقال: الخبرة لها وجهان.. وجه مشرق يظهر للناس، ووجه مؤلم فى باطن الخبير هو الثمن الذى دفعه مقابل هذه الخبرة.
قلت له: هذه جملة تصلح للكتابة على «تويتر»، فقال: أسوأ ما فى «تويتر» أنه اقتطع مساحة من الوقت المخصص للقراءة تحديدا الخاصة بالحمام، قلت له: بس بينفع، فقال: بينفع فى الزحام، فالمشكلة فى «وقفة المحور» أنها تتحول لا إراديا إلى «وقفة مع النفس»، لكن المأساة الأكبر فى «تويتر» أنه يقدم تطبيقا لنظرية تقول إنه فى هذه الأيام تضيع الأفكار بالتدريج وتتوارى لصالح الهوهوة.
قلت له: هذا كلام لا يشبه الديمقراطية أبدا يا برما، فقال: الديكتاتورية تساعدك على تحطيم الأفكار التى بدأت الناس تقدسها رغم كونها مضللة، مثل نظرية «حب ما تعمل حتى تعمل ما تحب» فالواقع يقول إنك إذا أحببت ما تعمل فلن تعمل ما تحب أبدا، وعموما النظر إلى الفكرة من جانب واحد يعميك عن تجليات كثيرة لها، يقول الإنسان: «عصفور فى اليد أفضل من عشرة على الشجرة»، وتقول الشجرة: «الإنسان مجنون فعشرة عصافير فى أحضانى أفضل من واحدة فى يد إنسان»، وتقول العصافير: «عبوكوا كلكوا».
فتاة الأحلام هى للأحلام فقط فَلِمَ تعيش تعيسًا لأنك لم تجدها على «فيسبوك»؟! وسر السعادة اسمه «سر» فلماذا تهلك نفسك فى فك شفرته؟ ومندوبو المبيعات الذين يهاتفونك طوال اليوم ليعرضوا عليك منتجاتهم ويزعجوك وتبحث كل مرة عن حجة كاذبة للهروب منهم، جرّب مرة أن تبيع أنت لهم شيئا وصدقنى لن يهاتفوك من جديد، والقطط التى يعايرها البعض بأنها بـ7 أرواح لا يعرفون أن الله خلقها بـ7 أرواح حتى تحدث التوازن البيئى المطلوب مع الأرواح التى تتلوث بمرور الوقت، ويقولون عن القطط (بتاكل وتنكر) و(بتاكل ولادها)، طيب ما هو طبيعى إنها إذا أكلت أولادها أن (تأكل وتنكر)، الناس مشكلتها عموما أنها مشغولة بالناس مع إنك لو خليتك فى حالك هتكسَّر الدنيا، الناس غريبة عموما، بل إن الناس أكثر غرابة مما يعتقد وائل جسار.
قلت له: ولكن المنافسة سر دوران الكوكب يا برما، فقال: يا هناه اللى ينافس نفسه، خليك فى نفسك، ولا تصدق نظرية «الاستلواح سر النجاح»، وابحث عن باب جديد فى الحياة لتفتحه، ولتضع فى يقينك أن الشخص الذى فتح الباب هو الذى اخترع الطريق، فامنح البشرية طريقا جديدا ولو بإشارة منك تجاهه، البشر الذين يعيشون لهذا السبب هم الذين عاشوا بالفعل ومن سواهم من البشر مجرد (فخار بيكسّر فى بعضه).
قلت له: ولكن الحياة صعبة يا برما، فقال: لولا الشطف والعصر مافيش حاجة هتنضف من بيجامة الواحد لحد قلبه، كُنْ واثقًا أن كل صعوبة تقابلها هى صعوبة مخاض، هناك شىء جديد بداخلك يطلب الحياة، فتحمَّل حتى تفرح بالمولود.
سيطر الصمت على المكان بينما ألملم أشيائى لأنصرف وأنا أفكر فى الكلام.
التفتُّ فوجدت برما مبتسما، ابتسمتُ فقال لى: يا صديقى الحياة بسيطة جدا.. هى صعبة فقط، لأنك لا تصدق ذلك.
قلت له: أشكرك يا برما، وجودك فى حياتى صنع فارقا لم أحلم به، مش عارف من غيرك كنت هاعمل إيه؟، قال: أنا لو مكانك أروح أتعالج.
قالها ثم اختفى.