تقوم نظرية الأمن الوطنى فى مصر على دعامتين رئيسيتين: الدعامة الأولى: تستهدف ضمان البقاء والوجود واستمرار الحياة، وذلك بالعمل على تأمين احتياجات مصر من المياه التى تأتيها عبر نهر وحيد تنبع روافده على بعد آلاف الكيلومترات وراء حدودها الجنوبية، ولأن إثيوبيا تحتوى على أهم مستودع للمياه الذى يمد مصر بحوالى 85% من هذه الاحتياجات، فمن الطبيعى أن يهتم صانع القرار المصرى اهتماماً بالغاً بما يدور وراء الحدود الجنوبية حتى منابع النهر.
الدعامة الثانية: تستهدف حماية استقلال مصر وسيادتها على أرضها، وذلك بالعمل على تأمين وسائل الدفاع عن مصر ضد الغزاة الطامعين فى احتلالها أو الساعين لتقييد إرادتها. ولأن جيوش معظم الغزاة الطامعين فى مصر أغاروا عليها عبر بوابة سيناء، فمن الطبيعى أن يهتم صانع القرار المصرى اهتماماً بالغاً بما يدور وراء الحدود الشمالية الشرقية، وتحديداً فى منطقة الشام.
معنى ذلك أن العوامل الجغرافية والتاريخية تفرض على مصر فى كل الأوقات أن تتابع باهتمام ما يجرى وراء حدودها الجنوبية، إذا أرادت تأمين احتياجاتها من المياه اللازمة لبقائها على قيد الحياة، وأن تتابع بنفس القدر من الاهتمام ما يجرى وراء حدودها الشمالية الشرقية، إذا أرادت صد غارات الغزاة الطامعين فى خيراتها أو الساعين لتقييد إرادتها لسبب أو لآخر. ولأن النظام الحاكم فى مصر الآن يبدو عاجزاً عن مواجهة التهديدات القادمة من الجنوب، خصوصاً بعد قرار إثيوبيا بدء بناء سد الألفية، وعن مواجهة التهديدات القادمة من الشمال الشرقى، خصوصاً بعد تكرار حوادث قتل وخطف الجنود فى سيناء، فقد بات واضحاً بما لا يدع مجالا لأى شك أنه نظام غير واع بأبعاد نظرية الأمن، ويُعَرِّض مصر لأخطار وتهديدات لم يسبق لها أن تعرضت لمثلها من قبل، حتى فى أزمنة الاحتلال.
فالدروس المستفادة من التاريخ تقول بوضوح إن تأثير الاحتلال الأجنبى، الذى تعرضت له مصر كثيرا فى مراحل مختلفة من تاريخها، كان غالبا ما يقتصر على فقدان الإرادة أو الاستقلال، كليا أو جزئيا، لكنه أبدا لم يُعَرِّض بقاء مصر أو وجودها للخطر مثلما هو حادث الآن، فمصر تتعرض اليوم، وتحديدا فى عهد الدكتور مرسى وفى زمن الإخوان، لتهديد مزدوج ومتزامن لأمنها الوطنى عبر بوابتيها الشمالية الشرقية والجنوبية معا، وفى آن واحد، وهو أمر لم يحدث من قبل، وأظن أنه لم يقع بطريق المصادفة.
مخطئ من يعتقد أن التهديدات التى تهب على مصر من وراء حدودها الجنوبية، عبر إثيوبيا، يمكن فصلها عن التهديدات التى تهب عليها من وراء حدودها الشمالية الشرقية عبر سيناء. فما كان بمقدور إثيوبيا، فى تقديرى، أن تجرؤ مطلقاً على اتخاذ قرار منفرد بالبدء فى تحويل مجرى النيل الأزرق، وأن تخاطر بالدخول فى صراع مفتوح مع مصر، ما لم تكن مدعومة بالكامل من حليفتها إسرائيل، بل الأرجح أن تكون إسرائيل هى المحرض الأول، رغم أن إثيوبيا تبدو هى المستفيد الرئيسى. وإذا صح هذا الاستنتاج، وأظن أنه صحيح، فلن يكون لذلك سوى معنى واحد، وهو أن العدو الذى تواجهه مصر من الشمال الشرقى هو نفس العدو الذى تواجهه من الجنوب. ولأنه عدو يتحرك وفق رؤية استراتيجية مدروسة، وليس بمنطق رد الفعل الأهوج، فإننى أكاد أكون على يقين من أن التصعيد الإثيوبى يرتبط بشكل أو بآخر بتطور الصراع الدائر فى سوريا وعليها.
لقد أدركت جميع الأنظمة الوطنية التى تعاقبت على حكم مصر، منذ عصر الفراعنة حتى الآن، أن هذا البلد لا يستطيع أن يحافظ على استقلاله وسيادته إلا بتأمين المنطقة المتاخمة لحدوده الشمالية الشرقية، بتحييد هذه المنطقة، وضمان ألا تصبح معادية إذا تعذر عليها أن تكون حليفة. ولأن مصر والشام شكلتا على الدوام كتلة استراتيجية واحدة يصعب على أحدهما أن يحافظ على استقلاله ومصالحه بمعزل عن الآخر، فقد أدرك كل صانع وطنى للقرار أن الدفاع عن أمن مصر يبدأ عند أبعد نقطة وسط منطقة الشام. وإذا كان إنشاء كيان صهيونى فى فلسطين قد استهدف، ضمن ما استهدف، قطع امتداد مصر الجغرافى مع مشرقها العربى، فإن إبرام مصر معاهدة سلام منفصلة مع إسرائيل تجبرها على قبول ترتيبات أمنية تنزع سلاح معظم سيناء، شكل خطوة بالغة الأهمية على طريق التمكين لدولة إسرائيل الكبرى فى المنطقة.
أظن أنه بات واضحاً للجميع الآن أن الصراع الدائر فى سوريا وعليها منذ عامين لم يعد مجرد صراع بين شعب يتوق للحرية فى مواجهة نظام فاسد ومستبد، رغم أنه بدا كذلك بالفعل لحظة انطلاقه، وتلك حقيقة حاولنا أن نلفت النظر إليها مراراً وتكراراً، فسرعان ما تحولت ثورة الشعب السورى على نظامه المستبد إلى ساحة لتسوية حسابات إقليمية ودولية مزمنة. لذا لم تعد القضية الأَوْلى بالرعاية الآن تدور حول مستقبل نظام الأسد ومدى قدرته على الصمود بقدر ما تدور حول مستقبل سوريا وموقعها من خريطة الصراع العربى الإسرائيلى فى المستقبل، ولأن سقوط نظام بشار سيكون خطوة أولى نحو تصفية حزب الله فى لبنان، تمهيداً لتصفية النظام الإيرانى نفسه، أظن أنه بات واضحاً أن إسرائيل ستكون المستفيد الأكبر، بصرف النظر عن حسابات القوى الإقليمية والدولية الأخرى. لذا لم يكن غريباً أن يتحول الصراع الدائر فى سوريا وعليها الآن إلى صراع إقليمى أطرافه الأساسية: تركيا وقطر والمملكة السعودية وإسرائيل، فى جانب، وإيران وحزب الله وقوى عراقية، فى جانب آخر، وإلى صراع دولى أطرافه الأساسية: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، فى جانب، وروسيا والصين، فى جانب آخر.
فى سياق التحسب للآثار المترتبة على التطورات المحتملة للصراع الدائر فيما وراء حدود مصر الشمالية الشرقية، يمكن فهم بعض أسباب ودوافع فتح جبهة جديدة للصراع وراء حدودها الجنوبية بالتوازى مع جبهة الصراع الداخلية. بعبارة أخرى يمكن القول إن مصر محاصرة الآن من الداخل والخارج بثلاث بؤر للتوتر تجسدها: 1- عمليات إرهابية عند بوابتها الشمالية الشرقية فى سيناء تقودها تنظيمات مسلحة مخترقة إسرائيليا. 2- صراع فى الجنوب حول مياه نهر النيل تقوده إثيوبيا، حليفة إسرائيل. 3- استقطاب وتوتر سياسى فى الداخل، تغذيهما وتشجع عليهما إسرائيل من وراء ستار.
إذا استمر الحال على هذا المنوال أظن أن كل السيناريوهات المحتملة تصبح كئيبة، فاتساع نطاق الحرب الأهلية، التى بدأت شرارتها تنتقل من سوريا إلى كل من لبنان والعراق، يمكن أن يطول المنطقة بأسرها، بما فيها دول الخليج. واندلاع حرب إقليمية شاملة سيحسم فى النهاية لصالح إسرائيل أو تركيا أو إيران، أو لصالح هذه الدول الثلاث معا، وبالتالى لن يخرج منه أى طرف عربى فائزا. ولأن مستقبل مصر مرتبط بمستقبل النظام الإقليمى العربى، فمن المتوقع أن تخرج مصر من حلبة هذا الصراع أكثر ضعفا.
كانت الشعوب العربية، قبل ثورة يناير، تنتظر بفارغ الصبر عودة مصر لممارسة دورها الإقليمى، أما بعد الثورة فقد تبين لهذه الشعوب أن مصر لن تستطيع ممارسة دورها المأمول، قبل أن تتمكن من بناء نظام سياسى متماسك فى الداخل، وهو أمر يبدو مستحيلاً فى ظل المعطيات الراهنة، فمتى تدرك جماعة الإخوان أنها تُستخدَم الآن كأداة لتوجيه ضربة فى الصميم لأمن مصر الوطنى الذى يبدو أكبر وأعقد من قدرتها على استيعاب مضمونه وأبعاده؟