مع إيماننا بأن مصر هبة النيل.. إلا أننا للأسف لا نحسن التعامل مع مصدر هذه الهبة، وأصل وجودها، واستمرار حياتها وبقائها.. لا ندرك قيمة ما بيدنا، إلا بعد فقدانه.. فنجلس للولولة والبكاء والنواح، حتى يعتصرنا الألم ويقتلنا الحزن.. من عاداتنا السيئة أننا لا ننتبه إلا بعد فوات الأوان، عندما تدهمنا المصيبة وتحل بنا الكارثة.. تماماً كالطالب الذى يقضى وقته طوال العام فى اللهو واللعب، ثم يفاجأ بأن لديه امتحانا فى صباح الغد.
فى مؤلفه القيم «شخصية مصر» يقول حمدان: «إذا كان السودان قلب بعدنا النيلى، فإن أطرافه فى هضبة الحبشة من يمين، وهضبة البحيرات من يسار، أو من شمال وجنوب هى قلب منابعنا المائية، ومن ثم قمة وحدتنا الهيدرولوجية.. ومن هنا فلئن افتقدت تلك الأطراف القصية النائية الكثيرة من كثافة التفاعل والتعامل والترابط البشرى والحضارى والتاريخى، فإنها تكتسب خطورة حيوية فائقة إلى حد يعلو كل تعريف أو تأكيد. ولذا يتعين على مصر أن ترعى وتنمى بُعدها النيلى فى تلك الأطراف كشرط أساسى لصحتها السياسية». ثم يستطرد قائلا: «وبين طرفى الحبشة والبحيرات، إذا كان لنا أن نقيم الأوزان النسبية، فلا شك أن الثقل الأغلب يذهب إلى الأول، ليس لأنه مصدر الفيضان والإمداد المائى الأساسى، ولكن لأنه الأقرب جغرافيا وبشريا والأكثر ارتباطا تاريخيا وحضاريا.. فمن الملاحظ مثلا أنه بينما دخلت المسيحية إلى الحبشة من مصر أولا مثلما دخل الإسلام منها إلى السودان بعد ذلك، فإنه لا الإسلام ولا المسيحية وصل منها إلى البحيرات».
منذ أيام قليلة علمنا بخبر احتفال إثيوبيا بالبدء فى عمليات تحويل مجرى النيل الأزرق كخطوة عملية فى إنشاء «سد النهضة العظيم» بالقرب من حدودها مع السودان.. وقد سمعنا من بعض أهل الاختصاص عندنا أننا كمؤسسات لدينا كل المعلومات التى جرت ولا تزال تجرى هناك فى إثيوبيا حول هذا المشروع، بل لدينا أيضا كل السيناريوهات التى يمكن أن تتخذها مصر إزاء أى خطوة تتخذها إثيوبيا، وأن هذا كله تم تسليمه إلى مؤسسة الرئاسة منذ حوالى ٦ أشهر.. لكن الأمر يحتاج إلى رؤية وإرادة سياسية (!!) فهل هذا معقول؟!
لسنا ضد بناء هذا السد، لكننا ضد أى مساس بحصتنا من المياه.. إن السد سوف يتحكم فى ٨٦٪ من مياه النيل التى تصلنا.. وبالتالى فالسؤال هو: ما السياسات التى يجب اتخاذها من الآن لضمان حصتنا؟ كنت أتوقع عقب الإعلان الإثيوبى مباشرة أن يدعو الدكتور مرسى على وجه السرعة خبراء المياه والاستراتيجية والأمن القومى والقانون الدولى إلى لقاء فورى لوضع خارطة طريق فيما يجب اتخاذه من خطوات، حتى لا ندع الشعب المصرى فى حيرة.. هل من الضرورى التهديد باستعمال القوة الآن أم لا؟ وما الآثار والتداعيات الإيجابية والسلبية، إقليميا ودوليا، لذلك؟ إن الأمر لا هزل فيه، وقضية الأمن القومى المصرى ليست محل جدل أو نقاش.. وفى تصورى أنه حتى مع استخدام القوة الناعمة، فإن التلويح باللجوء إلى القوة الخشنة يمكن أن يساعد الأولى ذاتها فى أداء مهمتها.. ثم إن الأعمال الاستخباراتية يمكن أن يكون لها دورها فى الوقت المناسب، بعيدا عن أى صخب أو ضجيج.
إن الجانب الإثيوبى لن يحرك ساكنا، ونحن على هذا الحال من التفكك والتشرذم والانقسام.. كفى عبثا.. لابد من تجميع الشمل، وتنحية جميع أوجه الخلاف جانبا، وتجبيه كل القوى على مختلف توجهاتها للوقوف صفا واحدا إزاء هذه القضية الحيوية والمهمة.. مطلوب أن نكون على مستوى التحدى، فالمصلحة العليا لمصر تستوجب ذلك.. وفى هذا الصدد يجب أن تقوم الكنيسة الأرثوذكسية بدور مثمر وبناء.. أيضا الدبلوماسية المصرية، الرسمية والشعبية، مدعوة للتواصل المباشر مع إثيوبيا، للحوار حول سد النهضة، وفق خطة وبرنامج واضح يضمن الحقوق، فضلا عن تعاون اقتصادى وتجارى وتنموى، لإزالة الجفوة والفجوة بين بلدينا.. على المستوى الإقليمى لابد أن يكون هناك تنسيق وتعاون كامل مع السودان، وأن يكون هناك نشاط دبلوماسى مكثف مع دول حوض نهر النيل، بل على مستوى أفريقيا كلها لتبيان وجهة نظرنا حول الأخطار التى يمكن أن تلحق بنا.
على المستوى الدولى لابد أن يكون هناك تحرك واسع للتعريف بالقضية، والوضع القانونى لها، وأن نهر النيل ممر مائى دولى لا يجوز لإثيوبيا أن تتعامل معه كما لو كان قناة داخلية.