«وهكذا شهد إسلاميو تركيا للإسلام أنه ليس مجرد شعارات، بل هو وحده الحل. إن تركيا لم تعرف مرحلة الازدهار والاستقرار كما عرفتها مع الإسلاميين».. هكذا قال المفكر الإسلامي التونسي البارز راشد الغنوشي في أحد كتبه، مدافعا عن التجربة التركية، سائقا مثالا حيا عن «الدولة الإسلامية»، التي كثيرا ما تحدث عن أفكارها وفلسفاتها بحيث أضحى أحد أهم منظريها المعاصرين.
إذا ما وضعنا هذا الكلام نصب أعيننا سنفهم الدافع الملح لقطاع من إخوان مصر، ومن أنصار الحكم الإسلامي في الدفاع عن أردوغان ضد ثورة طائفة عريضة من شعبه في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل!
يعتقد الإخوان، وبعض الأطياف الشبيهة بهم من محبي الفكرة الإسلامية عموما، أن أي اهتزاز في تجربة أردوغان هو اهتزاز ينال بالضرورة من الروعة المتخيلة لما ستؤول إليه تجربتهم في الحكم، ثم يزيدون على هذا الاعتقاد تحرزا وتحسسا تجاه أي مؤيد للجموع المناهضة لأردوغان، إذ إنه بالضرورة، في وجهة نظرهم، يؤيد «النفور العلماني» على «التجربة الإسلامية» في الحكم.
التجربة التركية عموما ليست في نظر القطاع الإسلامي الأكثر تشبثا بالرواية القديمة عن «الحكم الإسلامي»، سوى مجرد ترقيع وتنويع على الفكرة الأم، لكن الشقة بعيدة بينها وبين «دولة الإسلام» المرجوة، ورغم الكامن في الصدور فإن بريق النموذج التركي في عمومه نجح كثيرا في الدفاع عن «الإمكانيات الكامنة» في النموذج الإسلامي، وفي تسويقه للجماهير المحتمل اقتناعها بالفكرة.
ورغم الرواية الإخوانية الجاري تداولها من أن أزمة تركيا الجارية نشأت بعد تمرد قطاع من العلمانيين على فرض أردوغان قيودا على شرب الخمور وشاربيها، في مقابل الرواية الخبرية القائلة بأن تمرد الشعب التركي جاء ضد إزالة 600 شجرة من موضعها في ميدان «تقسيم» بإسطنبول لإفساح المساحة أمام تشييد «مول تجاري كبير».
الجيل الإسلامي الشاب من رجال الأعمال الذي أنجح إدارة أردوغان ورفاقه في حكم تركيا، اعتنق سياسات رأسمالية تحررية كانت تهدف لمراكمة الثروات، وإحداث طفرات اقتصادية رقمية ساهمت في تلميع الواجهة العامة للاقتصاد التركي، في حين عمد إلى تبني أعمال مساعدة اجتماعية أقرب لـ«الإحسان» وفرت الفحم الحجري مجانا لـ4 ملايين فقير، فضلا عن إعانات مالية لـ8 ملايين مواطن دون الارتباط بضمانات حقيقية من تلك التي تطرحها الرومانسيات الكلاسيكية للخيال الباهر عن «الدولة الإسلامية»، الذي لا يكف عن استرجاع ذكرى أيام كان فيها بيت مال المسلمين يفيض بالمال وعن حاجة السائل!
ويجيء أردوغان وسط هذه الإزاحات العقيدية والاقتصادية، التي انتهت بالحلم الإسلامي، إلى تجربة رأسمالية نيوليبرالية ناجحة نوعا ما، ليعكس في نهاية المطاف قيمة «النجاح» لا قيمة «الإسلامي» في التجربة ككل!
ومن ثم يميل الإخوان ومن شابههم إلى إعادة «مونتاج» الحكاية التركية، بحيث نضع بعض المظاهر الإسلامية مع بعض المشاهد الاقتصادية الناجحة لتصير النسخة النهائية المعتمدة للتداول الجماهيري هي «نجاح التجربة الإسلامية»!
ربما لأجل هذا على الإخوان أن يدافعوا- ناعقين مع كل ناعق- عن أردوغان ظالما أو مظلوما.
يخوض أردوغان منذ سنوات صراعا ممنهجا لأجل تفكيك المؤسسة العسكرية التركية، وتشتيت قياداتها، الأمر الذي انتهى باستقالة 110 ضباط من القوات الجوية في فبراير الماضي بعد الحكم على أكثر من 300 من الضباط السابقين والحاليين بفترات سجن طويلة في سبتمبر الماضي بعد محاكمة استمرت 21 شهرا بتهم تآمر لإسقاط حكومة أردوغان قبل نحو عشر سنوات.
وشفى غليل قطاع من الإسلاميين الأتراك قدرة أردوغان على إدارة الصراع مع الجنرالات الكبار، الذين طالما تحدثوا مع القوى الإسلامية بصلف، وطالما هددوا بإسقاطها إذا حادت عن الجوهر الأتاتوركي العلماني للدولة، ودوما كان انقلابهم هو الاحتمال الأقرب، ودوما نزولهم الشارع هو التهديد الماثل في أذهان الإسلاميين الأتراك في الحكم.
وهو أمر، ربما يشبه كثيرا عملية الإطاحة، التي قادها الرئيس مرسي ضد المجلس العسكري، ويبشر بإمكانية نجاح المعسكر الإسلامي في تفكيك المؤسسة العسكرية المصرية، الغصة المريرة في حلق التجربة الإسلامية، وعنصر الممانعة الأقوى، بعد الضغط الشعبي ضد «أسلمة» مصر وفقا للنموذج الإخواني المتخيل عن الدين، ووفقا للمراضاة في التقسيم بينهم وبين النسخة السلفية من الدين!
ومن ثم فإن إحداثيات أردوغان والدروس المستفادة من قصته لإخوان مصر هي إمكانية «النجاح».. النجاح في البقاء وفي الرهان على الزمن في فرضهم كأمر واقع.
في احتجاجات تركيا الأخيرة اعتبر الإخوان تأييد الذائقة الثورية المصرية نكاية فيهم هم شخصيا وشماتة في «النموذج الإسلامي» فحسب، بينما لم يأخذوا في الاعتبار كل الملابسات الأخلاقية والمجتمعية، التي غلفت المشهد التركي.
فالإخوان لم يعودوا ينتقدون سلوك الشرطة، التي تستهدف المواطنين بقنابل الغاز، وتستخدم مستويات متقدمة من العنف المفرط في فض التظاهرات، والإخوان الذين خرج علينا مرشدهم متحسرا على نباتات بناية مكتبة الإرشاد قائلا «ما ذنب النباتات؟» لم يهتز ضميرهم تجاه اقتطاع 600 شجرة، وإبادة حديقة عامة لصالح مول تجاري استهلاكي!
الإخوان الآن في الحكم، ولديهم بغرائز-الغباء والبقاء- رغبة لا شعورية في الدفاع عن كل أنظمة الحكم في العالم! فتارة يزعمون أن هناك عمليات اعتقال مقننة في الولايات المتحدة لمن يتظاهر قرب البيت الأبيض (وهذا كله فريُ وهذيان وتلفيق) حين يحاصر الناس «الاتحادية»، وتارة يتضامنون مع الشرطة التركية، لأنها «تفض شغب القوى العلمانية التي تريد احتساء الخمور بلا ضابط»!
الإخوان سيدافعون عما قريب عن حق الشرطة الإسرائيلية في تنظيم دخول المصلين المسجد الأقصى! أنا لا أمزح، الإخوان واقعون في وله الدولة وشكل الدولة وسلطة الدولة.. وفي هذا الوله ستعمى قلوب وستعتم ضمائر.. أكثر مما عميت.. أكثر مما عتمت.