لا أزال أمنح أذنى بين الحين والآخر للإذاعة خصوصا الغنائية، فهل أنا حالة استثنائية؟ أمس أكملت الإذاعة المصرية عامها رقم 79، انطلقت عام 34، والحقيقة أن مصر عرفت قبل ذلك التاريخ بأكثر من عشر سنوات الإذاعات الأهلية التى كانت تشبه عددا من الفضائيات التى نراها اليوم، حيث التجاوز فى استخدام الألفاظ شىء عادى، حتى إن مطربا وملحنا كبيرا ومن أقوى الأصوات وهو الشيخ الضرير محمود صبح كثيرا ما كان يشن هجمات على المطرب والملحن الشاب محمد عبد الوهاب. كان صبح لديه صوت مكتمل فى بنائه، إلا أن عبد الوهاب احتل مكانة خاصة فى القلوب، ولهذا كان يتعرض لشتائم تنهال عليه من صبح بالأب والأم!
من حُسن حظى أن مبنى الإذاعة والتليفزيون كان هو مقصدى اليومى للحصول على الأخبار، برغم أننى كنت أعمل فى مجلة أسبوعية «روز اليوسف»، ولكن النهم الصحفى كان يدفعنى إلى الذهاب اليومى، وأتذكر شخصيات التقيتها وحفرت فى ذاكرتى مكانة خاصة، مثلا الكاتب الكبير بهاء طاهر كان فى النصف الثانى من السبعينيات رئيسا لـ«البرنامج الثانى» وهو ما أصبح بعد ذلك «البرنامج الثقافى».
كانت المشكلة التى تواجهنى أنه ليس لدىّ تصريح يسمح لى بدخول المبنى، والمجلة لم تعترف بى، لأنى لا أزال طالبا فى الكلية، ما كان يفعله بهاء هو أن يكتب اسمى بين عدد من الممثلين فى أى مسلسل يتم تسجيله، فأتمكن من دخول المبنى وألتقط الأخبار ولم أكتب على المقابل أى خبر عن بهاء طاهر! أتذكر سامية صادق التى كانت تعتبرنى ابنا ثالثا لها. الإذاعى وجدى الحكيم كتبت عن واقعة بيع تسجيلات لأم كلثوم لإحدى الإذاعات أظنها الكويت، واتصل بى وشرح لى حقيقة الموقف، وصار بالنسبة إلىّ بعدها هو مصدرى الأساسى للأخبار، فهو لديه حاسة التقاط الحدث المثير، وعندما تسأله عن أى رقم تليفون يستعيد الرقم بسهولة من الذاكرة كأنه يستعيد أسماء أبنائه!
القدير أحمد سعيد الذى لا يزال صوته هو عنوان إذاعة «صوت العرب» ودفع أحمد سعيد ثمن هزيمة 67، لما يعرف فى علم النفس بالارتباط الشرطى، فأصبح صوته يذكرنا بالهزيمة، كانوا يهتفون باسمه فى الخمسينيات وحتى النكسة فى عديد من البلدان العربية، لما كانت تمثله لهم إذاعة صوت العرب، وأطلقوا فى العالم العربى على الإذاعة اسم «صندوق أحمد سعيد»، وكانت صورته توضع بجوار جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر على كراسات التلاميذ فى أكثر من بلد عربى، إلا أنه بعد الهزيمة صار عنوانا لها. فهمى عمر كانت مصر كلها تنتظر تعليقه الكُروى فهو يمزج بأستاذية التعبير الأدبى اللماح بالساحرة المستديرة، فهمى زملكاوى ولكن عشاقه الأهلاوية وأنا واحد منهم كانوا يشكلون الأغلبية.
آمال فهمى التى كان ولا يزال برنامجها «على الناصية» هو الأول فى كل الاستفتاءات، آمال هى أول مذيعة تجرى معى حوارا، وبعد إذاعته شعرت أننى أصبحت أشهر صحفى فى الوطن العربى.
الشاعر الإذاعى عمر بطيشة وكان صديقا لفايزة أحمد ومحمد سلطان، كنت قد كتبت تحقيقا عنوانه «الشعب المصرى بحاجة إلى قرص الطعمية أكثر من حاجته لصوت فايزة أحمد» بعد أن أغلقت محلا يبيع طعمية أسفل بيتها بحجة أن رائحة الزيت تؤثر سلبا على أحبالها الصوتية، وكان عنوانا قاسيا، وتم الصلح عن طريق عمر، ولكن بالطبع ليس على حساب صاحب محل الطعمية، الذى عاد لمزاولة نشاطه وأثبت عمليا أن رائحة الزيت المغلى تجلى الصوت، والدليل فايزة التى كان صوتها يزداد تألقا مع كل «طشة» زيت!
لا أنسى إذاعيين كبارا أمثال السيد بدير الذى فتح لى مكتبته لأنهل منها ما أشاء، ونبهنى إلى أن علىّ أن أدرس السينما أكاديميا فور انتهائى من كلية الإعلام. ومدحت عاصم الذى كان يدعونى إلى منزله لكى أستمع إلى حوار الكبار أمثال الكاتب الكبير حسين فوزى «السندباد»، والفنان التشكيلى الكبير صلاح طاهر، وعرفت جلال معوض أعظم حنجرة إذاعية، اقتربت منه بعد عودته من المنفى، الرجل الذى دفع ثمن حبه لعبد الناصر وأبعده السادات عن الميكروفون وهو فى ذروة عطائه. وطاهر أبو زيد الذى ازددت تعلقا به بعد أن كان يرأس عديدا من لجان التحكيم فى مهرجان الإذاعة والتليفزيون، وكنت أستمتع بتحليله للنص والأداء. نعم الإذاعة المصرية لم تعد هى الإذاعة المصرية، ولكننا فى عيد ميلادها نكتفى بهذا القدر ولن نقلب عليها وعليكم المواجع.