رُوّعت كما رُوّع معظم المُثقفين فى مصر للحرب الضروس التى يُشنّها الإخوان المسلمون على الإبداع والمُبدعين، منذ تقلدوا السُلطة فى مُنتصف عام 2012.
من ذلك مُطاردتهم لأعظم أبناء مصر فى شتى ميادين الإبداع الفنى والثقافى والاقتصادى. فبداية من تهديد بعضهم بتدمير الآثار الفرعونية، لأنها بمثابة أوثان وأصنام، إلى إساءة حق التقاضى لترويع أعظم مُبدعى الكوميديا المصرية المُعاصرة وهو الطبيب الجراح باسم يوسف، إلى ارتكاب مذبحة دار الأوبرا خصوصاً، ووزارة الثقافة عموماً.
لقد كانت آخر تجليات تلك الحرب الضروس هى قرارات وزير الثقافة الإخوانى الدكتور علاء عبدالعزيز، بعزل الدكتورة إيناس عبدالدايم، مُديرة دار الأوبرا، والتى يشهد لها كل العاملين فى هذا المجال بالكفاءة والإنجاز، كذلك هشام جبر، وصلاح المليجى.
والسؤال الذى لا بد أن يسأله الجميع هو:
لماذا هذا العداء الدفين عند الإخوان المسلمين للإبداع والمُبدعين؟
وها هى بعض اجتهاداتى فى الإجابة عن هذا السؤال:
1- أن الإبداع بطبيعته، هو تمرد على الأنماط الفكرية والسلوكية المُعتادة. وقد تربى الإخوان المسلمون منذ نعومة أظافرهم على السمع والطاعة لكبارهم، الذين يعتبرونهم مُرشدين وحُكماء. ففى قمة هرم السُلطة مجموعة من عجائزهم، يُطلقون عليهم اسم مكتب الإرشاد، ويرأسه من يُسمونه المُرشد العام للجماعة، وهو الآن الدكتور محمد بديع، ونائبه المهندس خيرت الشاطر. وقد أتيحت لى فُرصة معرفتهما ـ إما من خلال زمالة بالسجون، أو من خلال ترتيب حوارات لهم مع دبلوماسيين غربيين فى القاهرة والخارج، منذ عام 2003، وبحضور المرحوم جمال البنا، الشقيق الأصغر للإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين. وفى تلك اللقاءات، لم يكن يتحدث منهم إلا الكبار، وحسب الأقدمية فى الجماعة. ولم يكن فيما يُبديه أى منهم من حديث أى اختلاف عن بعضهم البعض. فهم تقريباً نُسخ مُكررة.
2- أن عداء الجماعة للأوثان والأصنام هو لأنهم، الآن، ومنذ نشأة الجماعة عام 1928، قد جعلوا من الجماعة «أيقونة» (أى صنم) يعبدونه من دون الله. فالجماعة عندهم قد أصبحت أهم من مصر. ولعلنا نذكر القول الشهير لمُرشدهم السابق محمد مهدى عاكف، حينما سئل عن الوطن، حيث قال «طظ فى مصر... وإنه يشعر بحميمية أعمق مع أحد أفراد الجماعة من ماليزيا عن شعوره نحو أى مصرى من خارج الجماعة»!
3- أن مصر والمصريين لا يعدون فى نظرهم وفى أدبياتهم وتراثهم شيئاً لا يتعدى أن يكون وسيلة نحو غاية أكبر وأسمى، وهى «دولة الخلافة»، التى تمتد من إندونيسيا شرقاً إلى نيجيريا غرباً. بتعبير آخر، إن أى أرض أو بلد، يتمكنون من السيطرة عليه، لا يعدو أن يكون قاعدة أو نقطة ارتكاز، للانطلاق منها إلى السيطرة على الجيران، ويتوسعون ويتوسعون، حتى يستطيعوا توحيد كل بلاد المسلمين، يُحيون فيها دولة الخلافة الراشدة، كما كان الأمر فى القرن الأول الهجرى، والذى امتدت فيه دولة الخلافة من سور الصين العظيم شرقاً إلى بلاد الأندلس، على المحيط الأطلنطى غرباً.
4- فى هذا التصور الإمبراطورى للإخوان المسلمين فهم يؤمنون بتحقيق الفردوس المفقود لهم، منذ أربعة عشر قرناً. كذلك فلا بأس عند وزير ثقافتهم، لا فقط أن يعزل مُديرة الأوبرا، د. إيناس عبدالدايم، بل أيضاً لتدميرها إذا استلزم الأمر. ورغم أننى لم أقابل الوزير علاء عبدالعزيز، ولا أعرف عن خلفيته شيئاً ولا من أين حصل على الدكتوراه، ولكن إذا صدق الإخوان السابقون، ثروت الخرباوى، وكمال الهلباوى، فإن الجماعة لا ترحم من يقف فى طريقها، حتى لو كان من أعضائها السابقين، إذا اختلف أو خرج عن طوعها. فهى تعتبره مُرتداً، يجوز عليه إقامة الحدود. وقد رأينا ذلك فى حالة الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، الذى كان أحد كوادرهم النشطة، منذ كان طالباً فى كلية طب القاهرة. بل يرجع إليه الفضل فى إعادة بناء جماعة الإخوان المسلمين، بعد الضربات المُتلاحقة التى كانت الجماعة قد تلقتها على مر عهود الحُكم، بعد أن قامت باغتيال المستشار أحمد الخازندار، ثم رئيس الوزراء الأسبق محمود فهمى النقراشى (1949)، ثم محاولة اغتيال زعيم ثورة يوليو، جمال عبدالناصر، فى ميدان المنشية (1954).
فلمجرد أن د.عبد المنعم أبوالفتوح، قرر أن يخوض الانتخابات الرئاسية، مُستقلاً عن الإخوان، فإن الجماعة سارعت بفصله من صفوفها، واعتباره عاصياً لمشيئتها. ولم يشفع له كل نضاله السابق فى صفوفها، أو فى رئاسته لاتحاد الأطباء العرب.
إن هذا ليس عزاء للدكتورة إيناس عبدالدايم، ولكن تضامناً معها، وصيحة إنقاذ للإبداع والمُبدعين من جاهلية الإخوان المسلمين. إن حملة تمرد التى انضم إليها خلال أسبوعين فقط حوالى عشرة ملايين مواطن هم أيضاً فى نفس قارب إيناس وصلاح المليجى، وهشام جبر، وباسم يوسف. وحينما غزت ألمانيا النازية فرنسا، أطلق المُفكر الفرنسى الكبير أندريه مالرو، صيحته أن ألمانيا قد تغزو الأرض، ولكن فرنسا بثقافتها ستُقاوم جحافلهم، وستنتصر عليهم فى النهاية. وانتصرت فرنسا وحُلفاؤها الغربيون، وأصبح أندريه مالرو، وزيراً للثقافة فى فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية. وربما لم يسمع وزير الثقافة الإخوانى عن أندريه مالرو. وأنا أحثه لكى يقرأ قليلاً، ويُفكر كثيراً، قبل الاستمرار فى تدمير أغلى ما تملكه مصر، وهو عقول أبنائها، وقدراتها الإبداعية، التى هى أقوى من أى أسلحة دمار شامل قد تكون فى مخابئ الإخوان المسلمين.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.