الاكتفاء الذاتى من القمح والسلع الاستراتيجية مثل الذرة لا يحتاج لتحققه فى مصر سوى إلى قرار سياسى فقط، يضع الأبحاث والنتائج التى توصل إليها العلماء فى هذا المجال موضع التنفيذ، بعد أن تعبوا فى الوصول إليها، مصر بطبيعتها دولة زراعية بفضل نهر النيل الذى يشقها من أولها إلى آخرها، وهى فى الحقيقة هبة النيل الذى يمكن أن يقال إنه لولا النيل لما كانت مصر وحضارتها منذ الفراعنة، ولا يجب أن يغيب عن البال أن مصر هى سلة الغذاء للبلاد المحيطة بها، ولا ننسى قصة سيدنا يوسف، عليه السلام، التى وردت فى القرآن الكريم وهو يخاطب حاكم مصر فى هذا الوقت، بعد أن منّ الله عليه بإخراجه من السجن قائلاً له اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم، إلا أن دوام الحال من المحال، بطبيعة الحال، فقد تحولت مصر خاصة فى العصور المتأخرة إلى أن تستجدى القمح من البلاد التى لديها فائض، وقد تكون هذه البلاد ليست بلاداً زراعية وظروفها لا تسمح بذلك مثل المملكة العربية السعودية التى اكتفت منذ زمن طويل من هذه السلعة الاستراتيجية رغم أن ظروف الأرض وندرة المياه فيها لا تساعد على ذلك بل إنها فى وقت ليس بالبعيد ساعدت مصر فى الحصول على القمح، فيما سمته الصحافة صفعة القمح السعودى، إشارة إلى أن السعودية البلد الفقير فى موارد الزراعة استطاعت أن تكتفى من القمح وتعطى مصر الفائض عنها.
السياسة التى كانت قائمة قبل ثورة 25 يناير هى أنه لا ضرورة لزراعة القمح مادمنا نستطيع استيراده من الخارج بسعر أقل، ونسى هؤلاء أن الأسعار فى تقلب مستمر وقد ينتج عن ذلك أن ما وفرناه فى سنوات من فارق الأسعار تأخذه وزيادة عليه إحدى السنوات التالية التى ارتفع فيها سعر القمح عالميا نتيجة ندرته.
سقت هذه المقدمة لأبين للقراء خطأ سياسة الاعتماد على الخارج فى الحصول على هذه السلعة المهمة وخطأ القول بأن تكلفة الشراء أقل من تكلفة الزراعة، لأن هذا إذا كان ينطبق على مصر فى أوقات معينة فإنه ينطيق على المملكة العربية السعودية من باب أولى، ورغم ذلك أصرت على الاكتفاء الذاتى من القمح، حتى لا تعرض شعبها للجوع فى الأوقات الحرجة، رغم إمكانياتها المادية الضخمة، وفى الحقيقة إصرار النظام السابق على عدم تحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح والذرة اللازمين لتحقيق الأمن الغذائى كان وراءه مجموعة من المستفيدين من شراء هاتين السلعتين من الخارج، حيث يترتب على تحقيق الاكتفاء الذاتى منهما خسارة كبيرة، ولذلك فإنهم يقاومون أى محاولة ناجحة لذلك، ومن هذه المحاولات الأبحاث الناجحة التى قامت بها الباحثة الدكتورة زينب الديب فى هذا الشأن والتى أسفرت عن إمكان مضاعفة محصول القمح عن طريق زياده إنتاجية الفدان من 17 إردباً إلى 35 إردباً، فضلاً عن زراعة بعض الأراضى الصحراوية، وهى تجربة نجحت نجاحاً كبيراً قبل ثورة 25 يناير، ولكن القائمين على الأمر فى هذا الوقت حاربوا التجربة وعملوا على إفشالها حفاظاً على مصالحهم الخاصة، وبعد الثورة كان الأمل معقوداً أن يرى هذا المشروع النور، بعد أن تحققت الإرادة السياسية فى الاكتفاء من هذه السلعة الاستراتيجية، ولكن هذا لم يحدث ومازالت أبحاث الدكتورة زينب حبيسة الأدراج رغم محاولاتها المتواصلة لوضع هذه الأبحاث موضع التنفيذ، ولم تجد سوى مجموعة من التلاميذ النشطاء الذين اقتنعوا بالأبحاث ووضعوها موضع التنفيذ وجنوا منها الخير الكثير الذى تريد الدكتورة زينب أن يعم على مصر كلها، إلا أنها لم تجد من المسؤولين الحاليين بعد الثوره أى تشجيع، الأمر الذى دفعها لتقديم شكوى إلى النيابة العامة ضد من يحاول عرقلة هذا المشروع الحيوى، وقد تولت نيابة الأموال العامة العليا تحقيق هذا الموضع فى القضية رقم 459/2004 حصر أموال عامة عليا، المقيدة برقم 44/2004 حصر تحقيق أموال عامة عليا، وقد انتهى تحقيق هذه الشكوى كما أفادت النيابة العامة فى خطابها المؤرخ 20/9/2012 الصادر من محامى عام أول نيابة الأموال العامة العليا المستشار على الهوارى إلى المستشار نائب رئيس الجمهورية والذى جاء به أن التحقيقات كشفت عن أهمية هذا المشروع وجدواه فى مجال التنمية الشاملة بالصحراء وإعادة بناء القرية المصرية على أساس منهجى علمى، مع إمكانية تحقيق الاكتفاء الذاتى من السلالات المصرية لمحصول القمح التى ثبت ارتفاع إنتاجية الفدان الواحد منها على أثر التجارب التى أجريت بمعرفة الشاكية (الدكتورة زينب الديب)على النحو الذى شهد عليه المزارعون وأظهرته معاينة النيابة العامة.
فماذا ننتظر بعد ذلك لوضع هذا المشروع موضع التنفيذ سوى أن يتبنى الدكتور رئيس الجمهورية شخصياً هذا المشروع وصدور قرار سياسى منه بوضعه موضع التنفيذ، كما يقول خطاب نيابة الأموال العامة، وهو ما يوفر لمصر ملايين الدولارات التى تدفعها سنوياً لشراء القمح.
حمى الله مصر من كل سوء.