نفى البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية تلقيه أية اتصالات أو أى تفويض للكنيسة الأرثوذكسية بمخاطبة الكنيسة الإثيوبية لحل أزمة سد النهضة. وقد جاء النفى بعد بث أنباء تفيد أن رئاسة الجمهورية قد فوضت البابا بإجراء اتصالات مع الكنيسة الإثيوبية من أجل التوصل إلى حل لقضية تحويل إثيوبيا لمياه النيل الأزرق ضمن خطتها التنموية الخاصة ببناء سد النهضة. وقد أكد البابا أن الأخبار التى نشرت بشأن تفويض الكنيسة محض افتراء وليس لها أساس من الصحة. يثير هذا الأمر تساؤلات عديدة حول طريقة إدارة البلاد وشؤونها هذه الأيام، وعن الدور الذى يمكن أن تقوم به الكنيسة المصرية فى خدمة أهداف السياسة الخارجية المصرية التزاما بمصالح مصر الوطنية.
بداية نشير إلى أن الكنيسة الأرثوذكسية هى مؤسسة من المؤسسات المصرية، ومن ثم فإن دورها يتحدد فى ضوء الرؤية العامة للدولة من ناحية وطبيعة العلاقة مع مؤسسات الدولة من ناحية ثانية والمناخ العام السائد فى البلاد من ناحية ثانية. فى ما يخص العامل الأول المتعلق بالرؤية العامة للدولة نقول بوضوح شديد إن الأمر يتوقف على طبيعة نظام الحكم، وما إذا كان وطنيا لديه مشروع وطنى حقيقى وخطة شاملة للنهوض بالبلاد، يرعى حقوق المواطنة وينهض على أساس المساواة وعدم التمييز.
وجود مشروع قومى حقيقى يؤمن به المصريون وينخرطون فيه يدفع مؤسسات الدولة المختلفة إلى العمل بتناغم معا لخدمة مشروع وطنى حقيقى، والمساعدة فى تحقيق مصالح البلاد القومية. ولعل الدليل الأبرز على ذلك هو مصر الناصرية التى كانت تعمل وفق رؤية وطنية، لديها مشروع وطنى تنموى، دولة مصرية قوية تحقق العدالة الاجتماعية، لا تميز بين المصريين بسببٍ من عرق أو دين، فى هذه الدولة انخرطت جميع المؤسسات فى خدمة مشروع النهوض الوطنى، ومع تمتع مصر بمكانة دولية متقدمة ازدادت ثقة المصريين فى أنفسهم وبلدهم، وكانت الكنيسة المصرية فى ذلك الوقت واحدة من مؤسسات الدولة المصرية، عملت بتناغم معها، وكان للكنيسة المصرية دور مهم فى تطوير العلاقات المصرية الإثيوبية عبر علاقتها بالكنيسة الإثيوبية وبالإمبراطور هيلاسلاسى. انكسر المشروع القومى فى يونيو ١٩٦٧، ورحل عبد الناصر ثم البابا كيرلس السادس، وجاء السادات ليرأس الدولة والبابا شنودة ليرأس الكنيسة المصرية، بدأت مع السادات سياسات الطائفية والتمييز الدينى، وبدأ العنف ضد الأقباط على يد الجماعات الإسلامية التى وقف السادات وراء تأسيسها لضرب التيارين الناصرى واليسارى فى الجامعات المصرية، هنا تغيرت العلاقة بين الكنيسة والدولة لتأخذ شكل العداء الذى أنذر بالصدام، ونظرا لانسحاب الدولة من أداء وظائفها تجاه حماية وتعويض الأقباط، دخلت الكنيسة وحلت محل الدولة وبدأت فى ممارسة دور جديد عليها باتت فيه بمثابة الكنيسة والدولة. تصاعدت الخلافات بين السادات والبابا، بين الدولة والكنيسة، وبدت مصر على وشك الانفجار الطائفى، وتحركت جماعات من أقباط المهجر لتهاجم السادات وسياساته فوصلنا إلى سبتمبر ١٩٨١ وأقدم السادات على اعتقال مئات من الرموز الوطنية من كل الاتجاهات السياسية، ومنهم رجال دين إسلامى ومسيحى، وقرر تحديد إقامة البابا شنودة فى دير وادى النطرون.
بعد أقل من ستة أسابيع قُتل السادات على يد عناصر من الجماعة التى سبق وساعد على إنشائها لضرب التيارين الناصرى واليسارى، فانشغل الجميع فى منع الانهيار والحفاظ على النظام. خلال هذه الفترة تراجع التوافق الوطنى وتصاعدت حدة التمييز ضد الأقباط، وحاول السادات استخدام المؤسستين الدينيتين الإسلامية والمسيحية فى دعم مشروعه للصلح مع إسرائيل، وهو ما رفضت الكنيسة القيام به مذكرة السادات بما كان يقول «لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين».
وفى فترة حكم مبارك أعاد الاستقرار فى علاقة النظام بالكنيسة تدريجيا اعتبارا من عام ١٩٨٥ عندما ألغى قرار السادات بالتحفظ على البابا شنودة الثالث، وتدريجيا ظهرت صيغة جديدة بين الدولة والكنيسة، تستند إلى إدارة المشكلات لا حلها، والتعامل مع البابا شنودة باعتباره مرجعية الأقباط السياسية، وليس فقط الدينية. وغياب مشروع قومى طموح لم يترك الحاجة لطلب دور محدد من الكنيسة، وإن احتاج كل منها إلى الآخر لإدارة المشكلات والصراعات وعملية التمييز الدينى على نحو يحول دون تفجُّرها.
ماذا عن هذه العلاقة فى مرحلة حكم الإخوان ورئاسة مرسى؟