فى اليوم التالى لعودة الرئيس مرسى من إثيوبيا، بدأ المسؤولون هناك تحويل مجرى النيل الأزرق، وهو ما يعنى أحد أمرين، الأول: أن المسؤولين هناك أبلغوا د.مرسى بنيتهم تقديم موعد تحويل مجرى النهر، ولكنه لم يقدر أهمية الحدث، والثانى: أنهم تجاهلوا إبلاغه ولم يعنِهم رد فعله، ولعل هذه الواقعة تذكرنا بما فعله مناحم بيجين رئيس الوزراء الإسرائىلى السابق مع الرئيس الراحل أنور السادات عندما كان فى زيارة لمصر، وفى اليوم التالى قصفت الطائرات الإسرائىلية المفاعل النووى العراقى، وهو ما مثَّل إهانة بالغة للسادات، وبدا كما لو كان متواطئا مع إسرائىل، فى حين أنه فوجئ بالاعتداء الغاشم.
ما حدث يثير العديد من الأسئلة، لماذا تستهين إثيوبيا بمصر فى عهد الرئيس مرسى، وتتعامل معها بمنطق ليتكلم المصريون كما يريدون، ولنفعل نحن ما نريد؟ ولماذا تم تقديم موعد تحويل مجرى النهر، والذى كان محددا له ديسمبر المقبل؟ ولماذا لم تنتظر تقرير اللجنة الثلاثية المشكَّلة من مصر والسودان وإثيوبيا حول السد وما قد ينتج عنه من مشكلات؟ الإجابة:
أولا: أن النظام فى إثيوبيا يدرك أن الأولوية لدى جماعة الإخوان هى التمكين من الدولة المصرية، أما القضايا المصيرية للبلد مثل مياه النيل فتأتى فى مرتبة تالية، وبالتالى فإن أمامها الآن فرصة لا تعوض لتنفيذ مخططاتها، والسيطرة على مياه النيل، وتحديد الكميات التى توردها لمصر، بل وبيع الكهرباء لها، إذ إن مصر ستعانى من نقص الكهرباء والماء معًا بعد إنشاء سد النهضة الإثيوبى!
ثانيا: أن الإثيوبيين وحلفاءهم الإسرائيليين يعرفون أن الإخوان أبعدوا أهل الخبرة وجاؤوا بأهل الثقة، وهو ما يؤدى فى النهاية إلى عدم إلمامهم الكامل بجوانب المشكلة وطرق حلها، كما أنه ليست لديهم دراية بالضغوط التى يمكن ممارستها لتقليل حجم الخسائر والحصول على أقصى المنافع، أيضا السياسة المصرية الآن تعتمد طريقة يوم بيوم، وليست لديها استراتيجية متكاملة ولا تستشرف المستقبل، وهو أسلوب لا يجعل أى دولة تستطيع مواجهة المشكلات المعقدة مثل مشكلتنا مع إثيوبيا وباقى دول حوض النيل.
ثالثا: أن العمليات الإرهابية التى تتم فى سيناء من وقت إلى آخر، تبعد الأنظار عما يجرى فى الجنوب، ولا أعنى هنا أن إثيوبيا وراء ما يحدث فى سيناء، ولكنها تنتهز هذه الفرصة الثمينة لتحقيق مصالحها، وعندما يتم الانتباه إلى ما يحدث هناك تكون قد انتهت من بناء السد وحققت غرضها.
رابعا: أن مصر فى عهد الإخوان لم تبن -حتى الآن- علاقات قوية مع الدول ذات التأثير فى هذا الملف وزيارة د.مرسى إلى الصين لم تأت بجديد على هذا الصعيد، وواصلت الصين دعمها القوى لإثيوبيا فى إنشاء السد حتى إنها بددت المخاوف من انهيار السد بفعل عوامل التربة غير الملائمة للبناء، وذلك من خلال التكنولوجيا التى مكنت الصين من بناء سدود فى نفس ظروف تضاريس سد النهضة، كما أن العلاقات المصرية الإفريقية ما زالت ضعيفة وستظل كذلك لفترة بسبب ضعف الاقتصاد المصرى وعدم قدرته على الدخول فى مصالح اقتصادية كبيرة، تكون ذات تأثير على دول إفريقيا وبالتحديد إثيوبيا، بل إننا تركنا الملعب لإسرائىل تلعب فيه منفردة، وهنا واصل د.مرسى ما فعله مبارك بالابتعاد عن إفريقيا، رغم أهميتها الاستراتيجية لنا.
خامسا: أن الإخوان لم يستعينوا بخبراء على دراية كاملة بالملف وبإفريقيا، مثل د.محمود أبو زيد وزير الرى السابق، والسفيرة فايزة أبو النجا وزيرة التعاون الدولى السابقة، ود.بطرس غالى، صاحب العلاقات القوية فى إفريقيا، بل إنها لم تستعن بقوتها الناعمة ممثلة فى قادة الكنيسة القبطية ذات العلاقات القوية مع الكنيسة الإثيوبية حيث كانت الأخيرة جزءًا من الأولى حتى عام 1959 عندما استقلت، ولكن ظلت العلاقات بين الاثنتين قوية لانتمائهما إلى العائلة الأرثوذكسية، ورغم أن الحكومة فى إثيوبيا علمانية فإن تأثير الكنيسة قوى، خصوصا أنها تمثل 40 مليون أرثوذكسى إثيوبى.
كل ما سبق يجعل إثيوبيا لا تهتم بما قد يقع على مصر من أضرار، وأن المهم لديها هو تحقيق نهضتها التى تنتظرها بعد بناء السد، وفى سبيل ذلك تستعين بالخبرات المختلفة، وتنتهز الفرص المواتية، وتوحد شعبها على هدف واحد، وهذا هو الفارق بين نهضة إثيوبيا التى تقوم على الفعل، ونهضة د.مرسى وإخوانه التى تقوم على الكلام.