عاد الأخ الرئيس مرسى من زيارة إثيوبيا حيث شارك فى اجتماعات منظمة الاتحاد الإفريقى واحتفالها بمرور خمسين عامًا على إنشاء المنظمة التى كانت مصر بقيادة عبد الناصر الراعى الأساسى لها.. وما إن وصل الأخ مرسى إلى القاهرة حتى كانت الحكومة الإثيوبية تعلن عن بدء تحويل مجرى النيل وهو خطوة أساسية فى عملية بناء سد النهضة التى تتواصل بسرعة شديدة، رغم اعتراضات مصرية وسودانية من تأثير السد على مواردها من مياه النيل.
الوضع خطير.. ليس فقط بسبب تحذيرات الخبراء من أن بناء هذا السد سوف يؤثر على تدفق مياه النيل، وسوف يقلل إنتاج كهرباء السد العالى بنسبة الربع تقريبًا.. ولكن -فوق ذلك كله- لأن هذا ليس نهاية المطاف، فالمخطط الإثيوبى يتضمن إنشاء ثلاثة سدود أخرى على النيل الأزرق، بالإضافة إلى ما تم إنشاؤه قبل ذلك وما يتم تنفيذه من مشروعات وسدود صغيرة على روافد الأنهار الأخرى، مما يؤدى إلى التحكم الكامل فى المياه التى تذهب للسودان ومصر!!
وتقول إثيوبيا إنها تريد استخدام السدود أساسًا لإنتاج الكهرباء وليس للزراعة، وبالتالى فإنها لن تمنع المياه عن شركائها فى وادى النيل، ولكنها فى نفس الوقت ترفض الالتزام بضمان حصة مصر والسودان من المياه، وتسعى لإعادة تقسيم مياه النهر على ضوء اتفاق عنتيبى الذى ترفضه مصر والسودان.
وتزداد الشكوك بسبب ما يتردد عن مشاركة إسرائيلية فى هذه المشروعات، وعن مؤامرات لم تتوقف من جانب إسرائيل على مدى السنوات الماضية للإضرار بالمصالح المصرية فى دول حوض النيل، مستغلة تراجع دور مصر فى المنطقة وفى إفريقيا كلها فى ظل النظام السابق، واستمرار هذا الوضع -للأسف الشديد- حتى الآن!!
بعد الثورة.. كانت الآمال كبيرة فى أن تسترد مصر مكانتها، وأن تعود للاهتمام بقضاياها الأساسية بعد طول إهمال. كان المطلوب أن نتحرك بسرعة وأن نبنى على علاقات تاريخية ونضال مشترك مع شعوب إفريقيا التى ما زالت تذكر كيف كانت قاهرة الستينيات «وما أدراك ما الستينيات» هى مركز حركات التحرر والاستقلال الإفريقية، والتى لا يمكن أن تنسى ما قدمته مصر حتى خرجت إفريقيا من جحيم الاستعمار.
لكن ما حدث بعد ذلك كان مسلسلا من خيبات الأمل، ومن الفشل على كل المستويات، حتى وصلنا إلى الوضع الكارثى الذى نمر به.. دولة على حافة الانهيار، يقودها حكم لا يحسن إلا الفشل، ولا يهمه شىء إلا «التمكين» والهيمنة على الحكم. دولة تتداعى مؤسساتها، ويتراجع اقتصادها، وتسرح فيها عصابات الإرهاب، ويداهمها شبح التقسيم، وتقف عاجزة عن مواجهة الكارثة التى تهدد شريان الحياة فيها بعد أن أصبح النيل فى خطر!!
عندما جاءوا بوزير رى سابق ورئيس للحكومة، تصورنا أن ملف مياه النيل ستكون له الأولوية المطلقة فى اهتمامات الدولة. لكن الرجل تحول من خبير رى إلى خبير فى الرضاعة الصحية!! بينما أصبحت الحكومة بكاملها عبئا يُثقل كاهل المصريين، وهى تنتقل من فشل إلى فشل آخر بنجاح منقطع النظير!!
ما أعلنته إثيوبيا عن تحويل مجرى النيل هو جرس إنذار قد يكون الأخير لكى نتحرك قبل فوات الأوان. إن الخطر كبير لكن الحلول موجودة، فالمياه فى حوض النيل تكفى حاجة كل دول الحوض وتزيد. وحصة مصر والسودان من المياه لا تمثل شيئًا بجانب فاقد المياه الذى لو تم استغلاله لتوفرت لكل دول الحوض موارد مائية أكثر بكثير من المتاح اليوم. والنظم الدولية تضمن الحقوق التاريخية لمصر والسودان. والمواثيق الدولية تجعل موافقة كل دول حوض النيل شرطا لتنفيذ المشروعات الجديدة.
المشكلة أن الطريق إلى مواجهة الخطر على النيل لا بد أن يمر عبر وحدة الوطن حول حكم قوى رشيد، بينما الحكم عندنا مشغول بالتمكين وبالثرثرة حول «فنكوش» النهضة الإخوانية المزعومة عن الخطر القادم مع سد «النهضة» الإثيوبى.. يبدو أن النهضة أصبحت عنوانًا لكل الكوارث التى كُتب علينا أن نواجهها!