أغنية فريد الأطرش القديمة والشجية، عمرها 64 عاما، ظهرت فى فيلم «آخر كدبة»، كتبها واحد من أعظم شعراء العامية بيرم التونسى، وشاركت فى الغناء مطربة عملت كثيرا دون أن تنال حظها من الشهرة هى عصمت عبد العليم، ورقصت عليها سامية جمال، ورغم أن فريد كان مطربا حزينا بوجه عام فإن هذه الفترة كانت أكثر فتراته مرحا وإبداعا، ويبدو أن كثرة الأفلام الغنائية الخفيفة كانت محاولة لتخفيف الواقع المرير بعد هزيمة الجيوش العربية وضياع الشطر الأكبر من فلسطين، الأغنية جاءت كنوع من رد الفعل على النكبة، لم يع العرب وقتها أن عالمهم قد تغير إلى الأبد، ولن يقدر لهم أن يمتلكوا مصائرهم ويقرروا تاريخهم بعد ذلك، كانوا فقط فرحين بقرب استقلالهم وتكوين البذور الأولى للدولة الوطنية العربية، والمدن التى كان يطوف بها البساط، كانت لا تزال غضة، لحمها مكشوف لسنابك الاحتلال البريطانى والفرنسى ثم الصهيونى أيضا، ولكن العالم العربى كان أكثر تماسكا وإحساسا بالارتباط عما هو الآن، فقد كان يعانى من محنة الاحتلال المشتركة، ولم تكن الحروب العربية-العربية، قد استعرت بهذا القدر من الشراسة، وسقط كل هذا العدد من الضحايا، وجاء بساط فريد الأطرش فى وقته المناسب، فهو مريح و«كله أمان ولا البولمان» والأخير هو القطار السريع الذى كان قد دخل إلى مصر حديثا، ولم يكن يتعرض لقطع الطريق أو حوادث المزلقانات أو أن يحترق بركابه، أصبح القطار الآن أحد بؤر الخطر فى حياتنا، وزادت أيام التعطل عن أيام العمل، لم يستخدم فريد الأطرش القطار فى رحلته للشام، لأن اسرائيل كانت قد أوقفت نهائيا القطار الذى كان يعبر سيناء ويصل القاهرة بالقدس، وتجسدت القطيعة البرية بين مصر والشام وضاع حلم الدولة الموحدة التى هزمت الصليبيين ذات لحظة من مجد غابر.
رحل البساط أولا إلى سوريا ولبنان، إلى كتلة جغرافية واحدة، تجمعها أواصر من الدم أقوى من وهاد الطبيعة، حدود البلدين غارقة الآن فى الدماء، تدور حولها فى مدينة القصير واحدة من أشد المعارك شراسة فى حرب الأهل، ولا أدرى كيف انجر «حزب الله» ودخل المعركة الخطأ، وكيف وصل به الأمر إلى أن ضحاياه أصبحوا أكثر بكثير ممن تساقطوا أمام إسرائيل، نسيم الشام لم يعد شفاء الأرواح كما يتغنى به فريد، خليط من رائحة الجثث المتعفنة وحرائق لا تنطفئ وشكوك حول استخدام الأسلحة الكيميائية، فسد النسيم وماتت البهجة ودمرت المدن السورية الحبيبة بيد أهلها، حلب التى تحترق الآن كانت هى مدينة الطرب، ولها نمط غنائى خاص هو «القدود الحلبية» التى برع فيها صباح فخرى، وعندما ذهب محمد عبد الوهاب للغناء فى هذه المدينة، وكان وقتها مطرب الملوك والأمراء، لم يسمحوا له بالغناء مباشرة، جعلوه يغنى أولا فى حفلة خاصة لم يحضرها سوى ثلاثة من أكبر «السميعة» فى حلب وعندما رضوا عنه سمحوا له بالغناء فى حفل عام، وكان نجاحه مدويا لأنه استطاع بذكائه أن يفهم ذوق أهلها فى الغناء من خلال هؤلاء «السميعة»، تحولت القدود الحلبية الآن إلى صرخات استغاثة دون مغيث.
ويواصل البساط الرحيل إلى بغداد، وهى أيضا تمر الآن بلحظات تعيسة من تاريخها، فالسيارات المفخخة لا تتوقف، ينصبها غرماء الوطن من الشيعة والسنة لبعضهم البعض، رحل الأمريكان وتركوا نار الفتنة مشتعلة، لا يستطيع فريد الأطرش أن يهتف بنفس حماسه القديم: «نروح يا بساط على بغداد.. بلاد خيرات بلاد أمجاد»، فلا أحد يدرى من أين تأتى الضربة القادمة، وقد تسبب هذا المقطع فى منع إذاعة هذه الأغنية فى جميع وسائل الإعلام الكويتية طوال فترة أزمتها مع نظام صدام حسين، ولا أدرى إن كان قد تم الإفراج عنها الآن أم لا، ولكن من الصعب علينا عدم التغنى لبغداد، حتى وهى فى هذه الحالة التى يرثى لها، «يا دجلة أنا عطشان ما اقدر ارتوى»، هكذا تقول الأغنية، فقد تركنا نهرها عطشى وهو الذى روى أزهى أيام التاريخ، كانت أم كلثوم زائرة دائمة لهذه المدينة فى أيام العهد الملكى، فى كل عام تأتى إليها لتقيم حفلة فى قصر الملك لتصبح هى الحدث الفنى لمدة عام، وقد قابلت فى الكويت أحد المعجبين القدامى لأم كلثوم، كان يمتلك مجموعة تسجيلاتها كاملة من إذاعة بغداد إضافة إلى الجرائد والمجلات التى كانت تصدر فى وقت زيارتها، وقد أصبحت هذه التسجيلات نادرة ولا يوجد لها أصول فى أى إذاعة بما فيها بغداد، وبنى الرجل من أجلها غرفة مصفحة ومحصنة ضد الحريق، وعندما طلبت منه إذاعة الكويت بعض هذه التسجيلات اشترط أن يأتوا إليه وتتم التسجيلات أمام عينيه، ولم يسمح إلا بدقائق محدودة، كان حريصا على كنزه كبخيل أيرلندى.
ويقفز البساط من مشرق العرب إلى مغربهم، من بغداد إلى مراكش وتونس، ومراكش ما زال يطلق على المغرب كله فى اللغات الأوروبية، «بلاد الحوت والغلة والزيتون»، كما فى الأغنية، لأنها أكبر البلاد العربية إنتاجا للأسماك، وهى التى نقلت شجرة الزيتون للأندلس القديمة، ولكن الحديث عن تونس هو أجمل المقاطع فى هذه الأغنية، فالحنين إليها يحرق كبد الشاعر بيرم التونسى، خصوصا وهو يتذكر غزلانها البيض اللواتى يتجولن فى مدائن المرسى وحلق الوادى، لم يعد هناك أمان للغزلان، فالثورة التى أهدتنا بها تونس جاءت على غير ما نتوقع، خلصتنا من الحكم العسكرى المباشر، حكم الشرطى السابق فى تونس والطيار الأسبق فى مصر، ووضعتنا معا تحت قبضة دينية مسيطرة، أقل خبرة وأكثر تشددا، التغير كان كابوسا، والدم المراق كان ثمنا لصفقة فازت بها القوى الدينية دون مقابل، تونس مدينة الفن والمهرجانات صعدت فيها القوى المعادية للفن والغناء، ولو جاء فريد إليها الآن ببساط الريح لأصبح مطاردا، فهذه الأنظمة أحرص ما تكون على قتل روح البهجة. عندما كنت فى تونس منذ سنوات عرض التليفزيون فيلم «الوسادة الخالية» ربما للمرة المئة، ولدهشتى سهرت المدينة بأكملها تتابعه، وكان هو محور حديثها فى الصباح، وقالت لى سيدة تونسية عندما أحست بدهشتى: «أنتم تعتقدون أن عبد الحليم حافظ قد مات بينما ما زال حيا عندنا».
وفى النهاية كان يجب أن يختم البساط رحلته فى مصر، «أنا لفّيت كثير ولقيت البعد علىَّ يا مصر طويل»، المعنى نفسه الذى رافق بيرم فى سنوات المنفى، ولكن مصر ليست بأفضل حالا من بقية المدن التى زارها البساط، كأن هناك فخا قد نصب لكل المدن التى حلمت بالحرية والاستقلال واستعادة الكرامة، فى أحيان كثيرة عندما أكون فى إحدى حفلات الموسيقى العربية، يلح على ذهنى أن هذه هى الحفلة الأخيرة، وتتبدى أمامى رؤيا كابوسية، فأرى باب المسرح وهو يقتحم ويظهر أناس لحاهم طويلة وثيابهم قصيرة، يمسكون سيوفا حادة وسكاكين معقوفة، ويهجمون على الجميع، من يغنى ومن يستمع، ومن الغريب أننى وجدت كثيرين يشاركوننى فى هذه الرؤية المخيفة.