سنوات طويلة مرت من عمرى وأنا أتعامل مع فيلم «حياة أو موت» باعتباره فيلما كوميديا على الرغم من الإثارة المأساوية التى تشهدها أحداثه لكن هكذا كنت أراه، كوميديا بداية من اللحظة التى ينظر فيها حسين رياض إلى الكاميرا قائلا بنبرة مسرحية مرتعشة «أنا بدل ما أحط نُص سَنتى سولفات نحاس وخمسة سَنتى سلوفات ماغنزيا.. حطيت نُص سَنتى سلوفات ماغنزيا.. وخمسة سَنتى سلوفات نحاس» هذا الأداء الدرامى الذى يليق بأستاذ مساعد يخاطب الطلبة فى أحد سكاشن صيدلة أسيوط، لم يكن يقل كوميدية بالنسبة إلىَّ عن آخر جملة فى الفيلم التى قيلت على لسان الحكمدار يوسف وهبى «يا هانم إحنا واجبنا السهر على خدمة الجمهور»، خدمة الجمهور جعلت الحكمدار خلال الفيلم يلقى أوامره بالقبض على أى طفلة بفيونكة تسير فى الشارع تحمل زجاجة، فكانت النتيجة عشرات الطفلات فى مشهد يبكين فى غرفة الحجز إلى جوار عدد من المجرمين، هذا بخلاف أننى كنت أقول لنفسى دائما الحمد لله إن موضوع تركيب الأدوية انتهى من زمان، فإذا كان طبيب كبير فى قامة حسين رياض قد أخطأ فى المقادير فما بالك بحملة بكالوريوسات الزراعة الذين يقفون فى الصيدليات الآن (مع كامل احترامى لهم طبعا).
المهم.. تم تسكين هذا العمل فى ملفات الكوميديا فى المخ مثلما تم تسكين غيره من الأعمال كلٌّ فى منطقته، لكن بالأمس علَّمتنى مشاهدة هذا الفيلم شيئا جديدا.
هذه المرة الأولى التى أشاهده فيها بعد أن أصبحت أبًا، أنا بمفردى فى المنزل والابنة تقضى العطلة مع الأم فى منزل الجدة، مع كوب من الشاى يبدأ الفيلم قبل العيد بيوم عند مشهد يتأمل فيه عماد حمدى الأب الفقير، فستان طفلة فى فاترينة محلات «هانو» (أحد المحلات المملوكة لعائلة عدس اليهودية التى أسست محلات هانو وبنزايون وريفولى قبل أن تدخل هذه الشركات ضمن ممتلكات مصر بعد حرب السويس عام 56 وأصبحت شركات مساهمة مصرية)، الأب فقير ومطرود من عمله واليوم عيد والابنة تنتظر دَخْلَة أبيها الذى يقف منهارا أمام الفاترينة، تخيلت نفسى مكان عماد حمدى وتأثرت، دَخْلة الفيلم لا تبشر بأى كوميديا، فما الذى تغير؟ تغير أننى أشاهد الفيلم من أرضية مختلفة.
أنا الآن كلى لهفة خلف تلك الفتاة الصغيرة (لعبَت دورَها ضحى أمير) وهى تسير فى غابة شوارع القاهرة، قبل عامين كنت أرى أن كل هذه الدراما تنتهى فى مكالمة للخط الساخن لصيدلية «العزبى»، اليوم أنا مشغول بمصير الفتاة وغير مهتم أبدا بمصير الأب، أخشى عليها من فهلوة المصريين التى تنقذها من البوليس الذى يبحث عنها ليمنع وصول الدواء لأبيها ومن سكارى الشوارع والمتحرشين وجنون قائدى الميكروباص وعصابات تجارة الأعضاء، وأشعر بأننى مدين بالشكر لكمسرى الترام الذى تفهَّم أنها لا تمتلك نقودا لدفع التذكرة، والرجل الذى لا نعرفه الذى أمسك يدها ليعبر بها الشارع أمام دار القضاء العالى واصفا لها الطريق إلى محطة التحرير، والمراهق الشعبى الذى كاد يصدمها بدراجته ثم «صعبت عليه» عندما عرف قصتها فحملها خلفه على دراجته حتى محطة الترام.
اليوم أتابع الفيلم كأب، فاختبرت من خلال أحداثه مشاعر جديدة، أفكر أننى ربما بعد زمن طويل قد أشاهد فيلم «الحفيد» من أرضية الجد الذى تعانى ابنته الكبرى آلام الولادة بينما ابنته الثانية قد طفش منها زوجها وترك لها البيت، ساعتها سأختبر غُصّةً ما، لا مجال الآن لتفهمها وأنا أرى الفيلم مجرد حالة من البهجة الصافية (كنت مُغفلُن)، ربما أتعرض فى وقت مصيرى لخذلان أقرب الناس إلىَّ فيصبح سواق الأوتوبيس أكبر من فيلم سينمائى نظيف ربما يصبح طبطبة حقيقية لا يقوَى أحد على تقديمها، عندك مثلا العلاقة بأغنية مثل «والله لسه بدرى يا شهر الصيام» الأغنية ثابتة لكن تبدأ علاقتك بها «مبهجة» كطفل ينتظر العيد ثم «رصينة» كشاب يفتقد الطفولة وما أكلته منها الأيام ثم «مبررا للحزن الحكيم» كرجل كبير تذكّره الأغنية بالأحبة الذين ذهبوا، متأملا مَن أخذ مكانهم بالقرب منه.
مع كل خطوة فى عمق الحياة يعيد الإنسان اكتشاف نفسه، وأهم اللحظات فى حياة الواحد مرتبطة باكتشاف كم تغيرت علاقته بالأشياء الثابتة من حوله، مع كل محطة جديدة تعرف عن نفسك ما لم تكن تعرفه من قبل وبمرور الوقت تكتمل الصورة.
أعتقد أن هذه هى المهمة الرئيسية فى حياة كل واحد، الفن يساعدك فى ذلك بشكل كبير بالذات إذا كانت نسبة سلوفات النحاس فيه مضبوطة.