جديد وغريب على التاريخ المصرى الحديث هذا الذى يحدث للجيش المصرى، منذ تولى الدكتور محمد مرسى رئاسة الجمهورية، وسيطرة جماعة الإخوان على الدولة. فمنذ أن تأسس هذا الجيش فى قلب تأسيس الدولة المصرية الحديثة على يد محمد على باشا قبل قرنين من الزمان، وهو لم يقابل ولو مرة واحدة أى نوع من التحديات الداخلية التى تمس هيبته أو تنال من أفراده أو أسلحته وعتاده. فقط حدثت بعض وقائع النهب والسرقة لبعض معدات الجيش المصرى فى فترات الحروب مع القوى الخارجية، سواء فى التل الكبير مع القوات البريطانية عند غزوها مصر، أو فى سيناء عقب الحروب مع القوات الإسرائيلية.
أما أن يقتل هذا العدد من الجنود الذين سقطوا شهداء على حدود مصر الشرقية فى رفح، فى أغسطس من العام الماضى، ثم يختطف سبعة أفراد منهم ستة من المجندين فى الجيش المعارين لوزارة الداخلية ومتطوع بالجيش، ويتم تصويرهم وهم يتوسلون إلى رئيس الدولة ووزير الدفاع للاستجابة لمطالب المختطفين لكى يطلقوا سراحهم، فهذه مشاهد لا نظير لها فى التاريخ المصرى الحديث كله.
ولا يبدو أنه من قبيل المصادفة أن وقائع قتل أفراد الجيش أو اختطافهم- بما يظهره ضعيفاً مهاناً- حدثت كلها فى ظل هيمنة الإخوان على حكم مصر، فالجماعة لها تاريخ مرير مع الجيش المصرى منذ نحو ستين عاماً، وهو لا يعنى بالضرورة أنها متهمة بالقيام بهذه الوقائع، ولكنها فى أضعف الاحتمالات تبدو سعيدة بها. فليس بخافٍ على أى متابع لتاريخ الجماعة أنها فى صداماتها الكبرى، أو محنها كما تسميها أدبياتها، كان الجيش هو القوة الرئيسية التى تدفع بها الدولة لمواجهة الجماعة. فهكذا كان الحال فى صدامات أو «محنة» 1954 بعد محاولة بعض أعضاء الجماعة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر، وهو أيضاً ما جرى عام 1965 عندما تشكل التنظيم الإخوانى العنيف حول المرحوم سيد قطب وأفكاره الجهادية، وهو ما تم أيضاً لسبع مرات منذ عام 1992 فى ظل نظام مبارك وحتى سقوطه، حيث كانت دوماً الأجهزة والمحاكم العسكرية التى تواجه الإخوان، وهى التى تقضى بالأحكام القاسية عليهم.
إذاً، فهى لا تبدو صدفة أن يتعرض الجيش المصرى بعد الثورة وبعد انتخاب رئيس الجمهورية، المنتمى لجماعة الإخوان، لكل ما يجرى له اليوم فى مصر. وإذا كان سوء تصرف وإدارة المجلس الأعلى للقوات المسلحة لبعض مراحل الفترة الانتقالية- هو الذى أفرز، وأشاع الشعار المغلوط «يسقط حكم العسكر»، فإن خيبة أمل فئات واسعة من الشعب المصرى فى حكم الإخوان بعد شهور قليلة من بدئه، وتعلق واستنجاد أغلبية كبيرة منهم بالقوات المسلحة، باعتبارها المنقذ الوحيد للبلاد مما آلت إليه أحوالها الآخذة فى السوء والتدهور، كان هو الذى أضاف لحنق الإخوان التاريخى على الجيش حنقاً وخوفاً أكبر من أن يقدم على ما بات كثير من المصريين يطالبونه به، وهو إزاحة الإخوان من الحكم وإدارة البلاد لفترة مؤقتة جديدة، بالتعاون مع قوى سياسية مدنية وإسلامية غير الإخوان متعددة الاتجاهات والأفكار.
كل هذا لا يعنى أن النيل من الجيش المصرى وأفراده وعتاده وهيبته وكرامته، بوقائع القتل والخطف، تقع المسؤولية الجنائية عنه على عاتق الإخوان وحزبهم، فهذا الأمر لا يمكن حسمه إلا بإجراءات تحقيق قضائية عادلة ومدققة. إلا أن المسؤولية السياسية الرئيسية فى العام الذى أوشك على الانصرام من حكم الإخوان لمصر، بدءاً من انتخاب الدكتور مرسى رئيساً لها- تقع دون أدنى شك على الجماعة التى يبدو واضحاً منذ قيام الرئيس بالإطاحة بالمشير حسين طنطاوى والفريق سامى عنان أنها تتحسس كثيراً من الجيش، وتتخوف أكثر من التأييد الشعبى المتزايد لقيامه بدور سياسى مباشر فى إدارة البلاد وإنقاذها من التردى الذى تنحدر بسرعة هائلة إليه. والأكثر خطورة فيما يجرى حالياً من جانب قطاعات من الجماعة وبعض تابعيها من الجماعات والأحزاب الإسلامية الصغيرة، فيما يخص السعى إلى النيل من الجيش المصرى وهيبته ومكانته لدى المصريين، ضمن سعى أوسع لخلخلة مؤسسات الدولة الأخرى، خصوصاً الأمنية لإخضاعها والسيطرة عليها- أنه يتناقض، بل يتصادم مع الموضع الذى يشغله الجيش المصرى فى صيغة الدولة الحديثة التى أسسها محمد على باشا.
وقبل الثورة بخمسة أعوام وفى الذكرى السادسة والخمسين لثورة يوليو 1952 (عام 2008)، وفى هذه المساحة نفسها تطرقنا إلى بعض جوانب هذا الموضع، فأشرنا إلى أن المعنى التاريخى لهذه الثورة هو بدقة استدراك أبناء الجيش المصرى بعد سبعين عاماً اللحظة التاريخية المهمة التى فشل فيها أسلافهم عام 1881 بقيادة الزعيم الأميرلاى أحمد عرابى «ناظر الجهادية» وصحبه فى تأسيس حكم وطنى مصرى يحمى البلاد من الاحتلال الإنجليزى، وإقامة نظام سياسى يعبر عن هموم وآمال غالبية المصريين. بعد هذه العقود السبعة وثبات فشل كل الأنظمة السياسية التى تعاقبت على حكم مصر خلالها فى تحقيق هذين الهدفين، لم يكن هناك من بديل لدى أبناء قواتها المسلحة، وفى مقدمتهم ضباطها الأحرار، سوى أن يتحركوا بأنفسهم لكى يؤسسوا ذلك الحكم، وهذا النظام صبيحة الثالث والعشرين من يوليو 1952. ومنذ تلك اللحظة البعيدة، حيث تأسست شرعية «النظام الجمهورى» على أيدى أبناء القوات المسلحة، ظلت صفوفها متراصة وصلبة وراءه فى مراحله المتعاقبة دون أى اختلاف أو خلاف صغير أو كبير بداخلها حول هذا الدور الذى أضحى قدرها بعد أن كان اختيارها قبل ستة وخمسين عاماً «حينها».
وخلال هذه السنوات الطويلة، ظل الجيش المصرى يؤدى بدقة ما نصت عليه دساتير مصر المتعاقبة، بصياغات مختلفة، من أن «مهمته هى حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها»، بكل ما يشمله ذلك المفهوم المتسع من مهام خارجية لحماية الوطن فى مواجهة الأعداء، وأخرى داخلية فى تأمين استقرار نظامه الداخلى فى اللحظات الحرجة، خاصة تلك التى يحدث فيها انتقال للسلطة. وخلال أدائها هذه المهام لم تغادر القوات المسلحة ثكناتها، ولم تقصر فى أداء أى منها، سواء كانت خارجية أو داخلية، فى ذات الوقت الذى لم تتدخل فيه فى مجريات الحياة السياسية فى البلاد على ما شهدته من مد وجزر وتغيرات كبرى. إلا أن هذا الأمر الذى أشرنا إليه قبل خمسة أعوام تغير منذ اندلاع ثورة يناير ونزول الجيش إلى الشوارع وإدارة المجلس العسكرى شؤون البلاد، ومع ذلك ظل صحيحاً ما أضفناه حينها من أنه خلال أداء هذه المهام كلها، خاصة الداخلية، بدا واضحاً للجميع أنه لا تيارات ولا اتجاهات مختلفة بداخله حول هذه المهام، بل الوعى التاريخى بالدور الحاسم فى حفظ الاستقرار وتأمين الانتقال السلمى فى ظل انضباط تام من جميع عناصره وراء هياكلها القيادية الشرعية. من هنا فقد بدت باطلة تلك الاتهامات التى حاولت أن تلصق صفة «العسكرى» بنظام الحكم الذى أقامته ثورة يوليو، كما فشلت نظائرها التى ارتفعت بعد ثورة يناير هاتفة بسقوط حكم العسكر، وبدت فاشلة فى الحالتين تلك الدعوات لإبعاد القوات المسلحة عن القيام بالمهام التاريخية التى أسستها لنفسها منذ ثورة عرابى باشا وتأكدت مع ثورة يوليو 1952.
ونستعيد هنا ما اختتمنا به المقال المشار إليه قبل خمس سنوات، من أنه، وبهذه المعانى الرئيسية للأدوار التاريخية للقوات المسلحة، يظل الحديث عن المستقبل السياسى للبلاد دونها عبثا لا يجوز لعاقل أن يتورط فيه. وبهذه المعانى نفسها يكون أكثر عبثاً أن يعتقد البعض أن الحديث عن مواصلتها أداء هذه الأدوار فى المراحل القادمة القريبة من تطور البلاد السياسى- إنما هو استدعاء لها من ثكناتها، فهى من ناحية حاضرة دوما بالصورة السابقة والحاضر لا يستدعى، وهى من ناحية ثانية مؤسسة النظام الجمهورى وبانية شرعيته، فليست فى حاجة لمن يستدعيها لحماية ما أسسته، ووضعت قواعده، وهى من ناحية ثالثة تؤدى دوماً تلك الأدوار ككتلة واحدة منضبطة وراء قيادتها الشرعية دون انفلات هنا أو مغامرة هناك. فى ظل كل هذا، يبدو وصف الحديث التحليلى عن أدائها لأدوارها التاريخية على الصعيد الداخلى فى اللحظات الحاسمة الحالية بأنه «استدعاء»، بمثابة تهوين حقيقى من حرصها المعهود على الواجب التاريخى والدستورى «بحماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها»، ووعيها بعظم ما هو ملقى على عاتقها من مهام فى لحظات الانتقال الكبرى كتلك التى نعيشها. وليس فى كل ذلك أى شىء من «المكايدة» السياسية، ولا دعوة لتداخلها فى العراك السياسى الداخلى المحتدم، بل هو من صميم دورها التاريخى الذى تعرفه هى قبل غيرها من الكتاب، محللين كانوا أم «دعاة».