أقول إن التفاؤل إجبارى فيعتبر البعض أن هذه أعراض رومانسية مزمنة أو آثار جانبية لورم حميد فى مركز الطيبة القابع فى مقدمة الرأس (هذا المركز هو أول ما يقوم الشخص بتهشيمه داخله بنفسه إذا ما دخل مشاجرة، فيضرب خصمة بـ«روسية» تتلف الشعيرات الدموية التى تغذى فص الطيبة فيتحول إلى وحش غادر)، والحقيقة أن التفاؤل غير نابع عن تخيلات ولكنه ابن القليل من تشغيل المخ. لن أحدثك عن أننا شعب عظيم سينتصر (موضوع العظمة ده فيه كلام)، ولن أقول لك إن التاريخ أثبت (فما وصلنا من التاريخ هو ما أراد كَتَبَة التاريخ أن نعرفه بالضبط مثلما يفلتر الآباء المعلومات كلها وهم يربوننا حتى تنمو أفكارنا تحت سقف سيطرتهم).
ولكن التفاؤل مرتبط بتفصيلة لا نمعن النظر إليها، ولو حدث هذا لآمنت تماما أن العدل سينتصر، لأن الجزاء من جنس العمل، لم تسر الأمور على هوانا منذ سنوات طويلة لكن شئنا أم أبينا العدل يتحقق فى النهاية.
كل أبناء النظام القديم الذين ساعدوا فى أن يشعر المصريون بغربة فى بلادهم هم الآن أسرى غربة مقيتة، إما غربة حقيقية خارج مصر فارِّين منها يحلمون بعودة شبه مستحيلة، أو غربة مجازية نتيجة عزل الشعب لهم تحت مظلة كراهية قديمة لم يكن هناك مجال للتعبير عنها فى ما مضى.
كل أبناء النظام القديم الذين حبسوا أحلام المصريين فى صدورهم وعطلوا تحولها إلى حقيقة قابعون الآن فى الحبس.
الإعلام كان المسمار الأخير فى نعش نظام مبارك لذلك تم سحله فى شهور مبارك الأخيرة، تلقى الإعلام جزاءه بعد الثورة، فأصبح هو رقم واحد فى إدارة البلد (بغض النظر عن التنوع الرهيب فى مصداقية وجودة القائمين عليه) لكن المنظومة نفسها لعبت بنجاح دورا مهما فاستحقت أن تتابعه بقوة.
داخل الإعلام نفسه يلقى كل واحد مصيرا يستحقه بالضبط، المحبة استقرت عند أقدام الصادقين، وكل واحد نال من المنظومة ما كان يسعى إليه، الباحث عن الشهرة حصدها لكنها بالوقت ستؤرقه، لأن الجماهير تغدر بالمشاهير بدون مقدمات بدون رحمة، والباحث عن دور سياسى كزعيم أو ملهم أو منظر حصل عليه، لكنه يتخبط لأن وجهات النظر السياسية وخريطة الانحيازات تتغير كل شهر فى مصر، والباحث عن الخناقة سيظل على الساحة حتى تنتهى الخناقة فلا نرى له فائدة أخرى. وخدامو النظام، أى نظام، يرحلون برحيله لكنهم لم يتعلموا مما سبق أن الرحيل «بيكون بزفَّة».
من كان يجمع الأموال على أقفيتنا فقد معظم ما جمعه.
من كان يعبد نفوذه ويطيح به فى الخلق فقد نفوذه وأصبح خيال مآتة.
عاطفة الثوار ومحبوهم النبيلة الصادقة محت الحرفية المطلوبة فلم تتم ترجمتها فى شىء، بينما حرفية تامة بلا عاطفة مثل الإخوان منحتهم كل شىء، بالضبط مثل الفرق بين عبد الحليم حافظ وجورج سيدهم فى فيلم «معبودة الجماهير»، وقف حليم أمام شادية مشغولا بحبه ونسى أن يلعب الدور المطلوب منه بدقة، لم يفهم يوسف شعبان (المجلس العسكرى) هذا الصدق واعتبره تطاولا فاستعان بالممثل الجاهز تماما لتأدية الدور، فركع جورج سيدهم (الإخوان) تحت قدمى شادية، قائلا بحرفية بالغة (بحبك بحبك بحبك كلمة بقالى سنين شايلها)، الإخوان كان جزاؤهم من جنس العمل (مذاكرين الدور + لا مجال للعاطفة + حققوا للمخرج الخروج الآمن للعرض).
المكان الذى تقف فيه الآن غير راض تستحقه.. فراجع نفسك.
وراجع نفسك، لأنه سيرحل بما يستحقه كل من يقف الآن فى مكان ما.
وحدهم الشهداء فى المكان الأفضل.. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟