ماذا تفعل لو كنت مكانى وأنت تسير فى الشارع وجدت من تفتح لك ذراعيها وتأخذك بالأحضان، وقبل أن تستيقظ من الحضن الأول تجد حسناء أخرى تمنحك الثانى، وأنت فى حالة الذهول والدهولة تفاجأ بحضن ثالث، وإذا لم تسارع بالاحتماء بالرصيف ربما يصل الأمر إلى عشرة أحضان، وانت وحظك، حيث إنك لن تضمن فى هذه الحالة أن كل الأحضان من نساء جميلات، حيث إنه فى الزحام لا مجال للانتقاء.
هذا هو ما حدث لى بالضبط وأنا أسير أمام قصر الباليه فى «كان» قبل ساعات قليلة من نهاية المهرجان، واكتشفت أن الأمر مجانى ويُمنح لكل عابر أمام القصر، وأن هذه هى المرة الثالثة.
عدت مباشرة إلى «النت» لأكتشف الحكاية ووجدت أن هناك منظمة عالمية تحمل اسم «أحضان مجانية» بدأت نشاطها قبل ست سنوات، واختارت موعدا ثابتا لها وهو السبت الأول من يوليو فى كل عام، وحيث إننا لم نكن فى الأول من يوليو ولكنه سبت، ولأن هناك حدثا عالميا تعيشه مدينة «كان» فإن أعضاء هذه المنظمة قرروا أن يحطموا القاعدة ويمنحوا الأحضان المجانية يوما إضافيا مجانيا!
إنها أحضان بريئة فى كل الأحوال. والحكاية بدأت من مدينة سيدنى بأستراليا عندما عاد رجل من الغربة إلى بلده، وكان محبطا فوجد من أحس به فى الشارع فمنحه حضنا، ومنذ ذلك الزمن وهو يبحث عن كيفية العمل على اتساع دائرة الأحضان لمن هم مثله يعيشون مشكلات ولا يجدون من يتعاطف معهم، وهى بالتأكيد مشكلة عالمية، ولكن ما حدث هو أن السلطات الأسترالية اعتبرت أن هذه الأحضان بها اعتداء على الخصوصية فحرّمتها، وبعد ذلك استضافته المذيعة الشهيرة أوبرا وينفرى وانضم إليه الآلاف تضامنوا معه، فلم يعد هناك ما يستحق التحريم، حيث إن الأمر فى كل الأحوال لا يتم عنوة، لأن من حقك لو أردت أن تمنع هذه الأحضان.
الأعمال الفنية أيضا بعضها يمنحك قُبلات والآخر يمنحك صفعات، وأغلب ما رأيته فى المهرجان ينتمى إلى النوع الثانى.
فى كل مرة نترقب الفيلم بسبب اسم مخرجه، وفى عديد من المرات يخذلنا الفيلم برغم اسم المخرج، مثلا كان لأمريكا فيلما «المهاجر» لجيمس جراى و«العشاق فقط ظلوا على قيد الحياة» لجيم جاراموش. الفيلم الأخير يقدم حياة وحب مصاصى الدماء، ولكنه لا يبحث عن شىء أعمق مما تناولته كل الأفلام التى سبقته، وهى تعلى من شأن الدماء باستثناء أنه قدم لنا دماء مثلجة يتم تناولها مثل الآيس كريم، وأخرى يتم التهامها على طريقة التورتة، ويضعونها بدلا من الشيكولاتة. ولا أدرى لو أوغلنا قليلا هل سنجدها مقدمة على طريقة رغيف حواوشى.
الدورة بالفعل كانت مخيبة للآمال العريضة التى كثيرا ما ترتبط بالمهرجان، حتى إن عددا من المخرجين الكبار لم نجدهم على قدر هذا الترقب، باستثناءات قليلة مثل المخرج رومان بولانسكى، 80 عاما، أكبر المخرجين عمرا فى المسابقة الرسمية بفيلمه «فينوس بمعطف من الفرو» وكان آخر فيلم عرض داخل التسابق ويستحق منا وقفة قادمة.
لا يزال القسم الأفضل فنيا فى المهرجان هو «نظرة ما» وكان للسينما الكردية حضورا مميزا مع المخرج ساليم هينر، الذى أطلق عليه «أرض بيبر الحلوة» وتجد فى الفيلم هذا الحضور الخاص للهوية التى يعيش من ينتمون إليها، وهم فى الحقيقة يحملون جنسيات متعددة فى جواز السفر ولكنهم لا يعتزون سوى بالهوية الكردية.
الأكراد يصل عددهم كقومية تعايشت فى أغلبها بجوار القومية العربية والفارسية والتركية 30 مليون نسمة، وهم يتاخمون فى الحدود تركيا والعراق وسوريا وإيران، تستطيع أن ترى من خلال عديد من المهرجانات أن السينما هى إحدى وسائل الحفاظ على الهوية التى تعنى الأصل العرقى، وكم شاهدنا فى العالم كثيرا من حالات الاندثار التى تختفى فيها ملامح ولغات وثقافات لعدد من الشعوب، ولكن الأكراد يدركون أن الفن وسيلة للدفاع المشروع عن البقاء، ولهذا فإن مثلا من يقطنون منهم المناطق العربية مثل كردستان فى العراق يتحدثون أيضا العربية، إلا أنهم يحرصون أن تظل أفلامهم ناطقة بلغة بلدهم الأصلية، وهو ينطبق على الأكراد فى تركستان التركية، حيث يعيش القسط الأكبر من الأكراد فى الجانب التركى ويجيدون التركية التى هى اللغة الرسمية، ولكنهم يتعاملون بلغتهم، ولهم أكثر من قناة فضائية ناطقة ليس فقط باللغة الأصلية ولكن بعاداتهم وثقافاتهم التى توارثوها عبر الأجيال.
الفيلم تجرى أحداثه فى هذا الجزء الشمالى المتاخم لتركيا. يحاول المخرج محاكاة الطابع الغربى فى ما يعرف بأفلام «الويسترن» الأمريكية. وإذا كان الإيطاليون سخروا من تلك الأفلام لما تقدمه من مبالغات فى ما هو معروف بالويسترن «الإسباجيتى»، فإن الأكراد فى هذا الفيلم يقدمون من خلال المخرج هاينر تحية دافئة إلى هذا اللون بكل مبالغاته، حيث إن البطل يمتطى حصانه ويذهب للشمال لإقرار العدالة ويواجه بقوته وحيلته قوى الشر بمفهومها التقليدى.
وفى الأحداث نرى النجمة الأفغانية التى أدت دورها جولشفتين فاراهانى، وسبق أن كتبنا عنها كثيرا عبر تلك الصفحة بفيلمها «حجر الصبر» الأفغانى، الذى عرض فى مهرجان أبو ظبى الأخير واستحقت عنه جائزة أفضل ممثلة، حيث تلعب فى الفيلم الجديد دور مدرسة وتتعرض للمضايقات والمطاردات، الفيلم ملىء بالمفردات التقليدية فى أفلام الغرب الأمريكى مثل مركز الشرطة الذى يتم اقتحامه وصراع دموى وحاد قدمه المخرج ليس بين البشر هذه المرة، ولكن شاهدنا حصانين وهما يتناحران بضراوة فى مشهد من الممكن أن تستمتع به منفردا بعيدا عن السياق التقليدى للفيلم، ولكن فى برنامج «رائب عالم الطبيعة»، شاهدت الجبال الكردية الساحرة وتلك الأجواء التى تسيطر عليك بجمالها، ولكنى لم أجد بعد الفيلم الساحر الذى لا يغادر المشاعر. نعم الرسالة التى أرادها الفيلم فى عمقها قد وصلت، وهى أن الأكراد قومية بكل ما تعنيه الكلمة، وأن السينما هى السلاح المشروع للدفاع عن تلك القومية ولكن ماذا بعد.
مساء اليوم وتحديدا فى الثامنة مساء تعلن جوائز المسابقة الرسمية للمهرجان، وأعتقد أن أفلاما مثل الفرنسى «الأزرق اللون الأكثر دفئا» لعبد اللطيف كشيك والأمريكى «نبراسكا» لألكسندر بان وأيضا الأمريكى «فينوس بمعطف من الفرو» لرومان بولانسكى، سوف تتوزع عليها الجوائز والأول هو الأقرب إلى السعفة الذهبية.