كلنا عشنا قصص حب فاشلة. وكلنا عشنا أحلاما، لم تتحقق. وكلنا رأينا الحياة من طريق، لم يكن الأفضل. ليست تلك مأساة نادرة الوجود، بل جزء أساسى فى نمو شخصيتنا، وفى تجهيزنا لأن نكون الأشخاص الناجحين السعداء، أو الفاشلين التعساء، أو البَين بَين، الذين يؤدون دورهم فى الحياة.
لكننا نفضل أن نعتبرها مأساة. لماذا؟ لأن هذا يشعرنا بأهميتنا. يجعلنا نعتقد أن الحياة منتبهة إلينا، خيرا أو شرا. بينما الحقيقة الحقيقة أن الحياة لا تتعامل معنا بهذه الطريقة. الحياة تتعامل معنا بعشوائية لها قوانينها الخاصة، غير المعروفة على وجه الدقة. كروائية تترك أبطالها يتصرفون بحرية.
وقبل أن تتهمى هذه الجملة الأخيرة بالقصور، فإن «الأبطال» فى الرواية ليسوا شخصك فقط، بل شخصك، وشخوص أخرى فى المجتمع من حولك، منهم خصومك، ومنهم أناس يرون أنك مصدر سهل للمكسب، أو أناس يرون أنك مؤذية ويعملون بكل حسن نية لكى يكفوا شرك. وهناك أيضا الحوادث غير المتوقعة، والأمراض. كما الفرص، والحظوظ السعيدة. ولا تنسى شخصية الروائية، هذه مهمة جدا. مهم جدا أن تتعرفى عليها لكى تعرفى كيف تتعاملين معها.
لو تخيلتِ أن الروائية عادلة، تقيم العدل فى الدنيا حسب مفهومك، لن تتحركى فى الحياة بإيجابية. ستطمئنين إليها وإلى تصاريفها. ولو تخيلتها شريرة، وظيفتها استقصادك، ستغرقين فى محاربتها. الحياة -كروائية- لا تشبه فى صفاتها صفات البشر. الحياة -كروائية- عبارة عن مخزن أسرار، نكتشف منه كل يوم سرا أو اثنين أو ألفا. ويساعدنا هذا ولو بقدر ضئيل على تحسين حياتنا. على تقليل فرصة إصابتنا بالأمراض، مثلا، وعلى تحسين فرص الشفاء منها. على فهم «نفسية» الآخرين، ودوافعهم، من خلال علم النفس، من خلال الأدب، من خلال السينما. على تحسين أصوات الكون، بالموسيقى. على تحسين أوضاع البشر، بحقوق الإنسان والقوانين وحقوق العمال. على تحسين سياسة المجتمعات. انتبهى، قلت «تحسين»، لم أقل «كمال».
فى هذه الحالة فإن الحياة روائية من طراز خاص. واسعة الأفق، فى أفقها رغد العيش، والبؤس، كما فى أفقها المخاطرة. فى أفقها «العدل» و«العدل الآخر»، كما فى أفقها «الظلم» و«الظلم الآخر» وما بينهما. فى أفقها «المنطق» كما فى أفقها «المنطق الآخر» بكل درجاتها. وكل هؤلاء، كل درجة، على قدم المساواة لديها. حتى وإن لم يكونوا على قدم المساواة بالنسبة إلينا. فليس لديها أحكام مسبقة. الأحكام المسبقة يختلقها أشخاص الرواية.
الحياة -مثلا- تعرفك على طعام تأكلينه، وجسد تلمسينه، وشراب تشربينه، وصفعة تتلقينها، وطفل تنجبينه، أو تفقدينه، وبشر تتعرفين عليهم، ونار، وماء. حب أى شىء من هذا أو كرهه حكم تصنعينه أنت. أما الحياة نفسها فلا شأن لها به. الدليل؟ تغير أحكام البشر حول نفس الأشياء خلال تاريخهم المكتوب. بينما لا تتوقف الحياة نفسها عن تقديمها، عن توفيرها. لا تبالى بهم. لتأخذ مَن شاءت ما شاءت، ولتترك ما شاءت. هذا جانب فيه خيارات. الجانب الذى يسقط على رأسنا كالصاعقة ليس موضوع هذا المقال. الأحزان مكتوبة، لأن أحدا لن يختار ما يحزنه. أما السعادة فاختيار محتمل. بالسعى إليها حين تكون متاحة، واحتمال إدراكها.
أكبر «مفتاح فهم» تقدمه الحياة، أكبر «مساعدة» ننالها فى برنامجها من يربح السعادة، هى التجربة. وأكبر مأساة نفعلها فى أنفسنا هى تكرار التجارب الفاشلة، وأن نستعين بالخيار الذى خذلنا، ظنا أنه سينجح هذه المرة.
الخيار السابق ليس خيارا يا صديقتى. استثنيه. كما أن «عكس الخيار السابق» ليس خيارا. إنه الخيار السابق نفسه متنكرا. إنه أفق الخيار السابق. إنه عالم الخيار السابق. إنه عائلة الخيار السابق. جربى نوعا جديدا. شارعا لم تمشى فيه من قبل. هناك نسبة خطر، لا أخفى عليك، لكن الأهم أن هناك احتمال سعادة. الشوارع القديمة، المهجورة، تسكنها التعاسة، أو سبب آخر جعلنا نهجرها. اختبرى احتمال أن الخيار السابق مضروب فى أساساته، وليس فقط فى واجهته. وامسكى أعصابك. غالبا دى الحقيقة اللى بنخاف من تكلفتها، فنعيش العمر نلصم. علشان كده أنصار القديم بيحبوا ينفوا الاحتمال دا من نطاق تفكيرنا. عايزنا نعيش العمر كله «ننكش فى المنكوش».
خيارك القادم ابن وعيك الجديد. نقطة.